تتسابق البراغماتية مع التهوّر في الحسابات الإيرانية مع بدء العدّ العكسي إلى، إما إنقاذ مفاوضات فيينا لإحياء الاتفاقية النووية JCPOA ورفع العقوبات عن طهران، أو إلى انهيار المفاوضات وانطلاق إيران نووياً واقليمياً بمباركة روسية وسط تمزّق غربي وتوعد إسرائيلي.

فسحة المناورة تتقلّص وكذلك الفسحة الزمنية، ما يضع كلاً من الولايات المتحدة وأوروبا وإيران على عتبة قرارات مصيرية تؤججها روسيا على وقع توسّع العداء الغربي لها بسبب حربها على أوكرانيا. زيارة وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف طهران، الخميس الماضي، وضعت علامات فارقة لافتة لجهة استعداد موسكو لمباركة تحوّل إيران فعلياً إلى دولة نووية، وتكليفها أخذ زمام الأمور في سوريا بالنيابة عن روسيا مع إطلاق يدها في مواجهة إسرائيل وتركيا هناك. هذا إلى جانب الاتفاق بين موسكو وطهران على بدء تفعيل المعاهدة الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية المشابهة لتلك بين الصين وروسيا، والتي يعتبرها الطرفان أساسية للترويكا الصينية - الروسية - الإيرانية.

الكلام العلني لكل من لافروف ونظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في مؤتمرهما الصحافي المشترك، أفاد بأن الباب لم يُغلق تماماً أمام مفاوضات فيينا لكنّه على وشك. عبد اللهيان قال إن الاتصالات بين إيران ومسؤولي السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي تتواصل، وأكّد أن إيران لن تترك مسار الدبلوماسية وهي جادة في التوصل إلى اتفاق جيّد ومستدام في فيينا. هذا يفيد بأن طهران تفضّل الحكمة على التهوّر. لكن المشكلة تقع في التفاصيل المهمّة مثل رفض الرئيس جو بايدن قطعاً تلبية شرط إيران حذف "الحرس الثوري" عن قائمة الإرهاب كشرط مسبق لإتمام الصفقة. هذا إلى جانب إصرار الولايات المتحدة على نظام رقابة صارم للبرنامج النووي الإيراني ما زالت ترفضه طهران.

في الجلسات المغلقة بين لافروف وعبد اللهيان ومسؤولين إيرانيين كبار آخرين، اتفق الطرفان على أن فرص نجاح مفاوضات فيينا تتضاءل، وأن من الضروري لهما وضع اللمسات على الخيارات المتاحة أمامهما. وبحسب قراءة لأحد المطلِعيّن على ما دار في المباحثات، تطرّق البحث إلى استعداد روسيا لأن تدعم إيران في تحوّلها فعلياً إلى دولة نووية. وهذه ستكون نقلة نوعيّة في موقف روسيا الذي كان ملتزماً منع انتشار أسلحة الدمار الشامل وعدم الموافقة على امتلاك أي دولة جديدة السلاح النووي.

فقد كان هناك توافق بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، والتي تملك حق الفيتو - الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا - على منع توسّع النادي النووي. حرب أوكرانيا نسفت الكثير في مجلس الأمن الدولي، والأمر النووي أخطره وهو يدخل أيضاً في خطط التعاون الاستراتيجي الشامل بين روسيا وإيران.

الدبلوماسية الروسيّة تبدو تتخبّط بين عزم روسيا على إبرام معاهدة استراتيجية مع إيران تجعل من الطرفين شريكين اقتصادياً وحليفين عسكرياً، وبين رغبة موسكو برعاية علاقات أفضل بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والدول الخليجية العربية.

أثناء زيارته طهران، قال لافروف إن بلاده تعمل على ضمان أمن منطقة الخليج وهي تسعى إلى "تطبيع العلاقات بين إيران ودول المنطقة". اقتراح إجراء "حوار مشترك بين طهران والدول العربية لبناء الثقة واتخاذ خطوات تؤدّي إلى الاستقرار في المنطقة". هذا الكلام جميل لكنّ نفوذ موسكو مع طهران في إطار السلوك الإقليمي لإيران يبدو غير جدّي، أو أنه شريك سرّي للممارسات والعقيدة الإيرانية ما دامت تخدم المصالح الروسية. فموسكو تتغيّب عن تهدئة السلوك الإيراني في اليمن، وكذلك في العراق وسوريا ولبنان، بل تبدو أنها تؤجّجه.

التناقض واضح تماماً في علاقات روسيا الجيدة جداً مع دول خليجية فائقة الأهمية كالسعودية والإمارات، وفي علاقاتها الإيرانية الاستراتيجية منها وتلك التي تدخل في الخانة النووية. ذلك أن تشجيع موسكو طهران على أن تمتلك السلاح النووي لا يخدم أبداً استقرار منطقة الخليج الذي يزعم لافروف أنه يريده. ثم إن تحريض إيران على المواجهة مع إسرائيل سينفجر في منطقة الخليج، وهي مواجهة لا تريدها أبداً الدول الخليجية العربية.

ما نقلته المصادر المطلِعة على اجتماعات لافروف مع المسؤولين الإيرانيين أفاد بأن موسكو تتروّى الآن في معادلة المواجهة الإيرانية - الإسرائيلية التي تعتبرها مفيدة لها، تلقيناً لإسرائيل درساً في الوفاء وتوريطاً لإدارة بايدن التي ستقع في مأزق كبير إذا اندلعت هذه المواجهة.

الدبلوماسية الروسية أبلغت الدبلوماسية الإيرانية أن روسيا غير راغبة في هذه اللحظة بمواجهة إيرانية - إسرائيلية، بحسب ما نقلته المصادر، لكن ما أكدته هو حق إيران بالرد على إسرائيل عسكرياً إذا ما استفزتها بخطوات عدائية. أكدت أيضاً مركزية المصالح الإيرانية في سوريا وحيويتها وحقها في مواجهة كل ما من شأنه أن يؤذي المصالح الإيرانية أو الروسية أن أتى على أيدي تركيا أو إسرائيل أو غيرهما. أعطت روسيا الضوء الأخضر للجمهورية الإسلامية الإيرانية لتكون الضامن في الجمهورية السورية، بما في ذلك أن تحلّ محلّها في الدور الحيوي مع الحكومة السورية.

ما أدركته موسكو هو أن انشغالها بحرب أوكرانيا أضعف موقعها سورياً وأدّى إلى خسارة استراتيجية أمام تركيا وأمام الاستفزازات الإسرائيلية في سوريا، فقرّرت أن توكل إلى إيران المهمّة. وبالتالي تم الاتفاق على تكثيف الدور والجهود والمواجهة الإيرانية في سوريا. فشل مفاوضات فيينا هو المحرّك لإطلاق يد إيران إقليمياً، في نظر روسيا، وسوريا محطّة أساسية لتفعيل النزاع الإيراني - الإسرائيلي لكنها ليست الوحيدة. فإذا ارتأت طهران أن الوقت حان للانتقام من فشل مفاوضات فيينا وبقائها تحت العقوبات، لن ترحم إيران أحداً لا في العراق ولا في لبنان ولا في الممرات المائية في منطقة الخليج، وذلك بموافقة روسية ضمنيّة.

فأجواء روسيا أجواء غضب من إسرائيل بسبب مواقفها من أوكرانيا، وتعطيلها مفاوضات فيينا، واستهتارها بالمصالح الروسية، وتكرار هجماتها في سوريا... وإلى حد ما، غضب أيضاً من عملياتها داخل إيران ضد "الحرس الثوري" والمواقع النووية. أجواء الكرملين تتّجه نحو الاستفادة من غضب إيران في حال الانهيار التام للمفاوضات في فيينا. اختلاق الأزمات مفيد للطرفين لأسباب مختلفة، ذلك أن اندلاع حرب إيرانية - إسرائيلية سيحوّل الأنظار بعيداً من شراسة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا وسيُحرج الرئيس بايدن، ويحرجه كثيراً.

البعض في روسيا يدعو إلى افتعال أزمات قبيل قمّة دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) نهاية الشهر الجاري. هناك من يعتقد أن إدارة بايدن ستكون مكبّلة الأيدي في أوكرانيا، ولن تتمكن من مساعدة إسرائيل في حال نشوب نزاع مع إيران. وهناك من يرى أن نشوب مثل هذه النزاعات في الشرق الأوسط سيؤدّي إلى ارتفاع أسعار النفط بما يؤدّي إلى ضرب الاقتصاد الأميركي وضرب إدارة بايدن. فأي ما من شأنه أن يؤذي الرئيس بايدن وإدارته مرحّب به روسياً.

روسيا ضعيفة بلا شك وهي ترضخ تحت العقوبات وتقع في عزلة وتتصرّف في حربها الأوكرانية، بما يتنافى مع قواعد الحرب. لكن روسيا غاضبة، وغاضبة جداً. ساحة انتقامها من عداء الناتو لها قد تمتد إلى البلطيق وبولندا، وقد تتوسّع في نوعية السلاح إلى النووي التكتيكي، والمخيف أن المسؤولين العسكريين الكبار في ألمانيا وبريطانيا يتحدّثون الآن بلغة الأسلحة النووية.

قد يقال ما أهمية معاهدة تعاون استراتيحي شامل بين روسيا وإيران وكلاهما تحت العقوبات وفي عزلة عالمية. ما يجب التنبّه له هو أن روسيا ما زالت دولة دائمة العضوبة في مجلس الأمن، وفي وسعها تدمير قواعد النظام العالمي إذا ازدادت غضباً. روسيا تسعى وتعمل على صوغ مسار مستقل وهي تضرب عرض الحائط بالعقوبات الثنائية وتلك التي تفرضها الأمم المتحدة، إن كان عليها أو على إيران.

إيران جاهزة لتلبية روسيا إذا فشلت مفاوضات فيينا، لكنها اليوم ما زالت راغبة في إنجاحها من أجل رفع العقوبات عنها، الأمر الذي تحتاجه كثيراً في هذه الحقبة. رجال الجمهورية الإسلامية الإيرانية يتقنون فن "خذ وطالب" pocket it ولذلك لا تناقض عندهم بين استراتيجية الاستفادة من رفع العقوبات الآن وبين استراتيجية توطيد التعاون الشامل الدائم مع روسيا.
أثناء زيارة لافروف طرحت إيران فكرة قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة طهران قبل نهاية هذه السنة لتوقيع معاهدة التعاون الاستراتيجي. وبحسب المصادر، اتفق الطرفان على ذلك.

أما زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الشرق الأوسط فإنها، بحسب مصادر أخرى، تمر في مراجعة عنيفة بين أقطاب إدارة بايدن التي ينصح بعضها بالمضي قدماً بمحطّتي إسرائيل وفلسطين كما كان مقرراً، وإصرار البعض الآخر على إلغاء المحطّتين والاكتفاء بزيارة السعودية والمشاركة في قمّة مجلس التعاون الخليجي في الرياض. والسبب هو المعارضة القوية لزيارة الرئيس بايدن فلسطين من قِبَل إسرائيل وداخل الإدارة.

النقاش يصبّ جزئياً في خانة سعي إدارة بايدن إلى الدفع قدماً بسياسية إدارة ترامب المعروفة باتفاقيات أبراهام، والرامية إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول المنطقة بالذات في منطقة الخليج. كانت روسيا في السابق في طليعة العمل على تطبيع علاقات إسرائيل بدول الخليج والشرق الأوسط، بما في ذلك إيران.
المفارقة الآن هي أن موسكو تسعى إلى تطبيع العلاقات الإيرانية - العربية، فيما تسعى واشنطن لتوسيع رقعة التطبيع العربي مع إسرائيل. كل هذا في خضمّ حربهما غير المباشرة في الساحة الأوكرانية.

فللشرق الأوسط فوائده النفطية والاستراتيجية، كما اكتشفت إدارة بايدن بعدما قلّصت المنطقة العربية إلى ملحق لمفاوضاتها الإيرانية. زيارة الرئيس بايدن السعودية مهمّة بالتأكيد، لكن الأهم هو التفكير الاستراتيجي على نسق ما تقوم به إيران مع الصين وروسيا والبدء بتطوير اتفاقيات تعاون شامل وجدّي، غير متقلّب ودائم، مع الدول الخليجية الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، وفي طليعتها السعودية.