أكثر من عشر سنوات مضت منذ انطلقت حركة الاحتجاجات في عدد من الأقطار العربية، التي أطلق عليها تعسفاً «الربيع العربي». ولا تزال تداعيات ذلك الحراك مستمرة حتى يومنا هذا.
قوبلت الحركة الاحتجاجية في أيامها الأولى بالتأييد والترحاب، من قبل كثير من الكتاب العرب، والنخب الفكرية والسياسية في الغرب، ووصفت بالعملية الثورية، رغم افتقارها لشروطها وأدواتها ومناخاتها. واعتبرها بعض السياسيين الأمريكيين «فوضى خلاقة»، ونظر لها بشكل مبتسر، باعتبارها مجرد تماه مع مشاريع كونية، هدفت إلى زعزعة الأمن القومي العربي، وتفتيت المفتت والأمر أعمق من هذا التبسيط بكثير.
الوضع العربي ظل لعقود طويلة مثقلًا بأزمات كثيرة، وكان مرشحاً للانفجار في أية لحظة، فهناك أزمات اقتصادية حادة في عدد من الأقطار العربية، وارتفاع في معدلات البطالة والفقر، وعجز عن مقابلة استحقاقات الناس، يقابله تغول للفساد والاستبداد. ولم يكن منطقياً أن يستمر الحال على ما هو عليه.
تزامن هذا الواقع المأساوي، بتجريف للحركة السياسية العربية، وانسداد بوابات أي أمل للخروج من الأزمات المستعصية التي عانت منها الأقطار التي تفجرت فيها الحركة الاحتجاجية. وقد سهّل ذلك اختراق هذا الحراك، من قبل حركات التطرف المتلفعة بالإسلام.
وجود أجندات خارجية، لتفتيت الوطن العربي، لم يعد أمراً خلافياً، فقد أشير له منذ الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية، وجرى التأكيد على أن عالم ما بعد الحرب سيكون مختلفاً بالنسبة لمنطقتنا العربية، حيث سيأخذ فيه بعين الاعتبار مصالح الأقليات القومية والدينية والطائفية، وبما يترتب على ذلك، من إعادة تشكيل الخرائط السياسية، لما بعد الحرب العالمية الأولى.
اكتشاف الأمريكيين السلاح النووي، والتحاق السوفييت السريع بهم في اقتناء هذا النوع من السلاح المرعب، واشتعال الحرب الباردة بين القطبين الرئيسيين، خلقت حقائق جديدة، فلم يعد بالمقدور الحديث عن حرب مباشرة بين العملاقين. وكان البديل عن ذلك حروب الوكالة. وقد اقتضى ذلك أن يكون الوكلاء على الجانبين، الأمريكي والسوفييتي، على قدر معقول من القوة. ولذلك تأجل الحديث إلى حين عن مشاريع التفتيت.
منذ مطالع الثمانينات من القرن الماضي، توالت التقارير مشيرة إلى العراق، كمدماك أول في مشروع إعادة الاعتبار لحقوق الأقليات القومية، وأتباع الأديان والطوائف الدينية، وذلك بسبب لوحته الفسيفسائية، التي تجعل منه كياناً يفتقر إلى التجانس والوحدة. والسرد في هذا الموضوع طويل ومرير، فمن تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر في مؤتمر مدريد عام 1990، عن صياغة خارطة سياسية جديدة، لمنطقة الشرق الأوسط، إلى خطوط عرض حظر الطيران العراقي، إلى احتلال العراق، عام 2003، وتدشين عملية سياسية على أساس القسمة بين الطوائف والأقليات، إلى الظروف التي أعقبت ما بات يعرف ب«الربيع العربي»، والتي نتج عنها تفكيك أوطان وسقوط دول.
إلا أن ذلك وحده لم يكن كافياً لكي تأخذ مشاريع المحاصصات مكانها على أرض الواقع، لولا الرخاوة التي منيت بها الكيانات العربية، وضعف مؤسسات الدولة الوطنية. لقد فقدت تلك الدول مشروعيها منذ عجزها عن حماية أمنها القومي والدفاع عن حدودها، وعدم قدرتها على توفير لقمة العيش لمواطنيها.
تعطل بناء الدولة الوطنية، وغاب الوعي لدى النخب الفكرية العربية، بأن الدول المعاصرة، هي نتاج تسويات تاريخية، بين قوى اجتماعية، تتنافس مع بعضها، ولا أحد منها بمستطاعه حسم الصراع لصالحه. إن التسويات التاريخية في المجتمعات المعاصرة، هي رهن لوجود نظم وقوانين ولوائح، تشرعن التنافس وتعقلنه. وللأسف فإن مشروع بناء الدولة العربية قد تعثر لأكثر من قرن من الزمن، منذ بدأت مرحلة الانبعاث المعاصرة، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، باستثناءات نادرة.
الدولة الوطنية العربية تتنافس الآن مع قوى عاتية، أكثر منها خبرة في السياسة، ولديها من مقومات القوة، السياسية والعسكرية والاقتصادية، ما يجعل من حركة دول العالم الثالث، الذي تنتمي إليه منطقتنا بطيئة وكسيحة. وخلال الثلاثة عقود المنصرمة تفردت قوة واحدة، على مجرى صناعة القرارات الأممية، وكان نصيب العرب من تدخلاتها كبيراً ومكثفاً.
العالم الآن يتجه، وفقاً لجل المؤشرات وتطور الأحداث، نحو التعددية القطبية، بما يعني أن أمام العرب فرصة تاريخية، ينبغي أن لا تضيع كما ضاعت فرص كثيرة غيرها. ولن يكون ذلك ممكناً، من غير حضور مشروع يقظة جديد، يضع في الحسبان مجمل التغيرات العلمية والسياسية والاقتصادية التي حدثت في هذا الكوكب في العقود الأخيرة.. مشروع يضعنا في القلب من حركة التاريخ وليس على الهامش منها.