شهور مضت وانقضت منذ التصويت على الانتخابات النيابية في العراق الشقيق، وظهور نتائجها، والتأكد من صحة الفرز إثر احتجاجات الخاسرين، وإخضاع النتائج للمحكمة الاتحادية، والقول الفصل فيها، ومع هذا فقد تعذّر تكليف الكتلة الفائزة بأكثرية الأصوات بتشكيل الوزارة، وقبلها تم تعطيل المجلس النيابي من اختيار رئيس البلاد الذي بدوره يكلّف رئيس الوزراء القادم، وإذا فتشنا من يكون وراء كل هذا التعطيل للاستحقاقات لن يكون غير إيران وعملاء إيران.

فمقتدى الصدر الذي يتزعم الكتلة التي فازت بالأغلبية يطالب بأن يكون لكتلته الحق في تشكيل الوزارة، بينما لا يرى ذلك المالكي والعامري والحكيم وغيرهم ممن يتزعمون أحزابًا موالية لإيران على حساب مصلحة العراق، مع أن مقتدى الصدر ليس على خلاف مع إيران، لكنه يتمتع بحس وطني - كما يظهر لنا - من حرصه على إصلاح ما أفسده المخربون في بعض الكتل الأخرى، ومعارضته ورفضه للتضامن والتعاون مع أي فاسد في تشكيل الحكومة، قناعة منه - على ما يبدو - بأن الوضع في العراق لا يسمح بالتسويات والمجاملات على حساب المصلحة العامة للشعب العراقي الذي يعاني من الفوضى، والاقتصاد المنهار، والبطالة، وعدم الاستقرار، وانتشار السلاح لدى الأحزاب دون ضوابط، أو قدرة للسيطرة عليها.

والمؤكد للمؤكد أن إيران لن تسمح بإضعاف دورها في العراق، أو التنازل عن مكتسباتها فيه طالما أن وكلاءها وأعوانها وعملاءها من العراقيين يقومون بما يلبي مصالح إيران في العراق، وجرّ البلاد لتكون تابعة لإيران، وأن بغداد لا تعدو أن تكون إحدى العواصم الإيرانية كما صرَّح بذلك أكثر من مسؤول إيراني، دون أي اعتراض من الطغمة الفاسدة والمسؤولة النافذة والمسؤولة في العراق، ما يعني أن استقرار العراق لن يكون ثمنه بأقل من التخلّي عن التبعية لإيران، والعودة إلى حضنه العربي فعلاً لا قولاً، وممارسة لا شكلاً من أشكال الهروب من الواقع.

فمنذ الإطاحة بصدام حسين، وتولي الحاكم الأمريكي (ابرايمر) إدارة الحكم في البلاد، وضع القوانين التي حددت آلية الانتخابات، ووزع فيها السلطة بين الكرد لرئاسة الجمهورية، والسنة لمجلس النواب، والشيعة لرئاسة الوزراء، وحصر السلطات التنفيذية والصلاحيات الواسعة برئيس الوزراء الشيعي، مثبتًا أقدام الإيرانيين في العراق قبل أن يترك البلاد لإيران وعملائها في العراق، لتظل البلاد في حالة من الضياع وعدم الاستقرار، حتى بعد انسحاب القوات الأمريكية والأجنبية، بمعنى أن العراق يدور منذ ذلك الحين وإلى اليوم في فلك المؤامرات الإيرانية ومطامعها في العراق وستظل هكذا ما لم يتغيَّر الحال.

وإن أي إصلاحات في العراق لن تتحقق إلا إذا أصبح العراق سيد نفسه، برجاله المخلصين، والوقوف صفًا واحدًا في وجه الطامعين بخيراته، والمتآمرين عليه من العراقيين ومن القوى الأجنبية، وإن خلاصه من مآسيه ومحنه وما يهدِّد أمنه واستقراره مرهون بتجاوزه لهذه العلاقة المشبوهة مع النظام الإيراني، والتزامه بعروبته، وتعاونه مع إخوانه العرب، سيما في هذه المرحلة الدقيقة الصعبة التي يمر بها، لعل في هذا بداية إنقاذه مما يعاني منه، وفك أسره من التسلّط الإيراني الذي طال أمده، وكثرت أضراره.