تتزاحم التصريحات والقمم الغربية على إثر الحرب الدائرة في أوروبا. و"الخطاب التجييشي" الذي يرافق هذه الحرب وهي تدخل شهرها الخامس أراه ظاهرة واحدة من عدة ظواهر استثنائية غير مألوفة في مسيرة الحياة في الغرب خصوصا على مستوى القادة والساسة. نظرة سريعة وتحليل نقدي مبسط لما نشاهده ونسمعه ونتابعه من لقاءات وتصريحات واجتماعات قد توصلنا إلى المحصلة أن الغرب في طريقه إلى فقدان بوصلة العقل التي كانت نبراسه منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزراها.
أدخلت الحرب بين روسيا من جهة وأكرانيا والدول الغربية التي تقف معها بقوة وصرامة ظواهر وشؤونا وسياسات وأطرا كانت بمنزلة المحرمات في الغرب. كان مجرد الإشارة العابرة إلى استخدام الأسلحة النووية أمرا لا يستسيغه الحس السليم. هذه الأسلحة المدمرة كنا نتصور أنها ردعية وحسب وأن حتى التطرق إلى استخدامها أمر محال. الحرب المستعرة في أوروبا جلبت معها خطر استخدام هذه الأسلحة، ووصل الأمر بأطراف عدة إلى التهديد باللجوء إلى استخدامها.
نحن أمام حرب غير مألوفة تنجب لنا تقريبا كل يوم ظواهر استثنائية لم تكن في الحسبان في هذا الجزء من العالم حيث الرخاء والبحبوحة وسيادة المنطق والعقل في التعامل، أو هكذا كنا نتصور.
ويبدو لي أن الحرب علمتنا أن البشر سواسية من حيث التعامل مع الأزمات الشديدة مثل الحرب في أوكرانيا. وعلمتنا أيضا، أن الحرب تسحق أول ما تسحق المنطق البشري، حيث يقع المتصارعون في فوضى فكرية وعقلية قد تصل إلى حد الهذيان.
وأرى أن القادة أول من يفقدون تماسكهم. ولا يغرنك كثرة القمم واللقاءات، لأن ازدحامها في الآونة الأخيرة أبعدنا كثيرا عن المنطق البشري الذي يجب أن يقود قراراتنا وتصرفاتنا.
اجتمع قادة الدول الغربية السبع الكبرى قبل أيام في بافاريا "جنوبي ألمانيا". والدول هذه "الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وكندا" يمسكون بزمام ثروة العالم. لهم نصف ثروة العالم رغم أن عدد سكانهم لا يتجاوز عشر سكان العالم. وتلاه اجتماع آخر للقادة الغربيين وحلفائهم في حلف شمال الأطلسي، وصف بأنه غاية في الأهمية.
كان البعض يتوقع أن تقربنا القمتان من وضع قد يطفئ النار المشتعلة في أوروبا، أو أضعف الإيمان ينحو صوب العقلانية والمنطق في مواجهة أزمة خطيرة لم يواجه مثلها الغرب منذ أكثر من سبعة عقود.
أظن أن ما حصل بعد القمتين أدى إلى تفاقم الأزمة وأن الباب الموصد في وجه الحل جرى غلقه بإمعان حيث صار من العسر بمكان معرفة سبيل الوصول إلى إقفاله.
والأزمة تضرب يمينا ويسارا، لأن عواقب وتبعات الحرب كارثية ليس على أوكرانيا أو روسيا وحسب، بل على الغرب ذاته ومن ثم العالم برمته.
لم يقدم القادة الغربيون -وهم يتربعون على نصف ثروة الدنيا- مشاريع لوقف الحرب، ولم نلحظ خططا للتعويض أو في أقل تقدير الحد مما تسببه من ارتفاع وتضخم في الأسعار وشح في المواد الأساسية.
المقررات في رأيي لم تذهب بعيدا عن "التجييش الخطابي" لأن أغلبها سيكون له ارتداد عكسي سيعانيه مواطنو هذه الدول أولا، وبعدها الدول الفقيرة في الجنوب التي لم يعد في إمكان بعضها دفع فواتير واردات الطاقة أو الغذاء.
ولأن التعامل مع الأزمة الخطيرة هذه لا يتماشى مع المنطق البشري، نلحظ أن بعض المسارات الاقتصادية المألوفة التي تنطلق من نظريات اقتصادية جرى تجريبها والبرهنة عليها انقلبت رأسا على عقب.
في روسيا نلحظ ظاهرة استثنائية تعاكس النهج الاقتصادي المعتاد. علمتنا التجربة وكذلك النظرية الاقتصادية أن فرض حصار اقتصادي محكم على بلد ما لا بد أن يؤدي إلى تدهور عملته.
الروبل الروسي، وبعد خسارة كبيرة لقيمته مقابل الدولار، ارتفع بشكل جنوني من 135 إلى نحو 53 للدولار والبلد في حرب عسكرية واقتصادية دامية مع أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون بينهم الدول السبع الكبرى التي اجتمعت قبل أيام لمراجعة سبل إيقاف موسكو عند حدها.
ونعلم أيضا أن الحرب إذا رافقها تضخم كبير فإن مصير العملة لا بد أن يكون الانهيار، آخر الإحصائيات تشير إلى أن التضخم في روسيا يقترب من 18 في المائة.
وكذلك نقرأ أن هناك تضخما في الولايات المتحدة ونتوقع أن تنخفض قيمة الدولار أو ترفع نسب الفائدة بموازاة نسبة التضخم. الواقع على الأرض عكس ذلك، الدولار ارتفعت قيمته مقابل العملات الرئيسة ونسبة الفائدة في أمريكا ما زالت متدنية مقارنة بالتضخم.
والغرب يضغط على روسيا اقتصاديا بشكل مكثف، ولا سيما على صادرات الطاقة، وفي الوقت نفسه جعل من الصين عدوا استراتيجيا رئيسا، هذا حسب مقررات قمة الدول السبع الكبرى.
لكن الضغط على صادرت الطاقة الروسية كانت له نتائج عكسية على اقتصادات الدول الأوروبية أولا حيث نشاهد زيادات مطردة لأسعار الطاقة فيها.
ومن ثم، فإن المستفيد الأساسي من تقييد صادرات الطاقة الروسية هو الصين، التي لا تكترث بالتهديدات الغربية وتلتهم شحنات الطاقة من النفط ومشتقاته والغاز المسال من روسيا.
الصين، العدو الاستراتيجي للغرب، تبتسم في داخلها لأنها تحصل على نفط رخيص، حيث إن روسيا تقدم خصومات تصل إلى نحو 35 دولارا للبرميل الواحد الذي تشتريه الصين.
أكبر سلعة استراتيجية في العالم هي النفط، وهي حاليا متاحة للصين، عدو الغرب الاستراتيجي، بأسعار بخسة بسبب سياسات الغرب تجاه روسيا، العدو الاستراتيجي الآخر.
لا غرو أن تكون الصين بمنأى عن آثار التضخم التي يعانيها الغرب.
أليست هذه ظاهرة استثنائية غريبة؟ والأغرب هو التشبث بسياسات تعزز هذه الظاهرة، أي منح غريم استراتيجي المنعة والقوة وذلك بحصوله على مادة استراتيجية بأسعار أقل بكثير من سعر السوق.