عرفت أوروبا ما يسمى بعصر الأنوار وعصر النهضة، وكان مناط العصرين الخروج من الخرافة إلى العقلانية. وكان الجدل عند المسلمين قبل ذلك، عن العقلانية، ما هي وما دورها؟ واستمر الجدل بعد ذلك في أوروبا بين ممجد للعقل ومسفه له. ويلخص الموقف من العقلانية قول المعري الشهير: يرتجي القوم أن يقوم إمام ناطق في الكتيبة الخرساء/ كذب الظن لا إمام سوى العقل مصيباً في صبحه والمساء. ومع ميل الكفة في أوروبا غالباً مع العقل، إنما الأمر تدرج في دقته وفي تركيزه حتى بلغنا اليوم في العصر الحديث لفهم أكبر له. فليس الأمر أن تكون مع العقل أو ضده، إنما الأمر أن تفهم متى تكون مع العقل ومتى تكون ضده؟

طال الجدل حول العقلانية والتجريبية لثلاثة قرون ولم يتوقف. وإذا أردنا أن نيسر الأمر، فالسؤال الأساس هو: هل تحصل المعرفة بالحواس أم بدونها؟ يرى العقلانيون أن المعرفة في معظمها تدرك دون حاجة للحواس، أو بمعنى أدق أن دور المعرفة الحسية ضعيف. وفي ذلك ينتقد التجريبيون موقف العقلانيين من الحس، ويتهمونهم بالجحود، لأنهم يرون الحواس عنصراً أساسياً في بناء المعرفة ولا يمكن فصلها. وتختلف آراء الفلاسفة بين مقدر للعقل أو محقر له، وبناء على ذلك من الصعب تصنيف الفلاسفة لمناصرين أو مناهضين للعقلانية بسهولة، كما في حالة جون لوك الذي يؤمن أن المعرفة مركبة من الحس والمنطق.

وكما عرضت في المقال السابق، شرع الباحثون في العصر الحديث بالوقوف عند العقل موقفاً تجريبياً لنقده. سواء كانت المعرفة حسية أم عقلانية أم الاثنين معاً، علينا أن نعرف حدود العقل وعيوبه. فإذا كان العقل بما أوتي من حس، ينسى تجاربه السابقة ويصدر أحكاماً خاطئة، فمهما كان دوره في العملية المعرفية، علينا أن نحول دون أن يقع في ما نسميه اليوم الانحيازات المعرفية. فمع تطور المنهجيات التجريبية، استطعنا أن نختبر العقل لنظهر ضعفه في أمور كثيرة.

فمع أننا كنا نعرف أن العقل قادر على معالجة معلومات كثيرة، وأنه عاجز عن التركيز على مشكلتين في وقت واحد، لكننا لم نكن نعرف أنه عاجز عن وصف المشكلة بدقة بعد حلها. كنا نظن أن العقل حيادي عند النظر للتجارب الجيدة والسيئة، إنما تبين لنا أنه ليس كذلك إطلاقاً. فالعقل متحفظ بطبعه يميل إلى الحذر خوفاً من الخسارة، وهو أشد خوفاً منها بعد تلقيها أول مرة. كما أن العقل حريص على بذل الجهد الأقل في كل عملية يمارسها. فإذا أطلقت له العنان، فسوف يبسط الأمور لك تبسيطاً مخلاً. فإذا وجدت من يتقن الحساب، فسيدعوك العقل للظن أنه يتقن الإدارة أو الاقتصاد، كل ذلك توفيراً لجهدك من عناء البحث العميق رأفة بك، وربما رأفة به أيضاً.