بجملتين مقتضبتين قالهما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للرئيس الأميركي جو بايدن، أدرك بايدن ومعه الغرب محدودية قيمة الأعمال الاستعراضية الدبلوماسية والسياسية التي مارستها إدارته بحق دول أوبك وأوبك+، وخصوصا بحق السعودية والإمارات. قال ماكرون إن الإمارات وصلت إلى أقصى مستوى الإنتاج النفطي لديها، ثم أردف بأن ما بقي من قدرة إنتاجية لدى السعودية فسيكون محدودا جدا، وليس بالمستوى الذي يحدث الفارق الذي يحلم به بايدن منذ سنة على الأقل. حلم انقلب كابوسا مع اندلاع الحرب الأوكرانية.

معدلات إنتاج الدول النفطية الكبرى ليست أسرارا عسكرية. هي معطيات تسجل بشكل شبه يومي لدى الأسواق ولدى منظمات الطاقة العالمية. سقف الإنتاج السعودي معروف منذ سنوات، وتجاوزه ممكن بمقدار 10 في المئة لو تم الضغط على آليات الإنتاج ولكن ليس لفترة طويلة. كل العدائية والتذبذب السياسي والتصريحات الأميركية غير مفهومة، لأنها تفترض شيئا غير موجود: أن هناك الملايين من براميل النفط يمكن ضخها من السعودية ومن الإمارات يوميا، لكن لأسباب سياسية بالدرجة الأولى، لا يريد هذان البلدان العمل على التخفيف من مشاكل إمدادات الطاقة.

نحن أمام واحدة من فرضيتين. إما أن الرئيس الأميركي في عالم آخر ولا علم له بقدرات الدول النفطية الرئيسية. أو أنه يناور لتخفيف الضغط السياسي الداخلي عليه بعد أن اقترب سعر غالون البنزين من 5 دولارات، ثم تجاوزه.

الفرضية الأولى غير واردة. فعلى معطى أن بايدن المسن مغيّب عن معلومات الواردات للطاقة في العالم، فإن إدارته ليست كذلك. البيت الأبيض ليس مسرحا لأداء ممثل واحد يفهم بكل شيء. حدث هذا لبعض الوقت أيام الرئيس السابق دونالد ترامب، لكن تلك الأيام الآن في سلة التاريخ ومن الصعب تخيّل أن تعود.

الفرضية الثانية هي توجيه الملامة إلى السعودية، وهي دولة عملت الإدارة الحالية على جعلها “منبوذة”، فما المانع من جعلها “منبوذة” و”شحيحة” في توفيرها ما يحبه الأميركان أكثر من أي شيء: الوقود الرخيص لسياراتهم وشاحناتهم ومحطات توليد الطاقة الكهربائية. ولو أضفنا صورة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى جانب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان التي اختارت إدارة بايدن أن تبدأ عهدها بمعاداته، فإن فكرة أن هذين من يمنعان النعيم النفطي عن المستهلك الأميركي تكون سهلة التسويق.

إذا كان الغرب يتعامل ككارتيل مستهلكين متى ما وجد أن هذا لصالحه وكارتيل إنتاج متى ما زادت قدرات إنتاج النفط الصخري لديه فما المانع من أن تتكتل الدول المنتجة في كارتيل بأنياب ومخالب من السوبر-منتجين

فكرة أن تفقد الولايات المتحدة السيطرة على أسعار النفط هي ما كان يقلق إدارة بايدن. ترتيبات أوبك+ التي انبثقت عن التوافق السعودي الروسي على تغيير أنماط الإنتاج وكمياته لأوبك، وانضمام دول من خارج أوبك إلى أوبك+ كانت نقطة فارقة بين عالم المنتجين وعالم المستهلكين. لإدراك ماذا تعني أوبك+، يمكن النظر إلى انضمام دولة مثل سلطنة عُمان إلى الترتيبات. هذه دولة نأت بنفسها عن كل التحالفات والترتيبات العالمية والإقليمية لرسوخ ثقافة سياسية لديها بأن هذه الترتيبات تقيّد السياسة المستقلة للسلطنة. لكن هذا هو واقع اليوم. إذا كان الغرب يتعامل ككارتيل مستهلكين متى ما وجد أن هذا لصالحه، وكارتيل إنتاج متى ما زادت قدرات إنتاج النفط الصخري لديه، فما المانع من أن تتكتّل الدول المنتجة والتي يشكل الريع النفطي شريانا حيويا لاقتصادها في كارتيل بأنياب ومخالب من السوبر-منتجين: السعودية وروسيا. الولايات المتحدة لا تلوم إلا نفسها لإيصال الدول المنتجة، كبيرها وصغيرها، إلى هذا الوضع.

حرب أوكرانيا أبرزت كل التناقضات. ساحة الحرب العسكرية هي جزء من مسرح عمليات يغطي العالم. وتوريدات الطاقة – ثم الحبوب – أصبحت بؤرة للتناقضات الغربية. تناقضات هزلية من نوع على أوبك+ زيادة الإنتاج، أي أن تزيد روسيا الإنتاج، مع العمل على منع روسيا من بيع النفط والغاز. فوضى الطاقة اليوم التي تعانيها أوروبا هي من نتائج هذه التناقضات. لكن بايدن ظل يروّج لفكرة أن الضغط على السعودية يمكن أن يحلّ المشكلة. الضغط تراجع لصالح التوسّل وهجوم المحبة الأميركي نحو السعودية وقمة جدة الإقليمية ولقاء بايدن المرتقب مع الأمير محمد بن سلمان. ثم جاءت قنبلة ماكرون فيما قاله لبايدن بأن السعودية غير قادرة على زيادة الإنتاج، ولو أرادت.

الولايات المتحدة الآن تقلّب في أوراقها القديمة وترسل الإشارات لإعادة تأهيل دول مثل فنزويلا سياسيا واقتصاديا. ولو تم الاتفاق النووي بما يسترضي إيران، فإن النفط الإيراني من الممكن أن يعطي السوق النفطية فسحة إنتاج أكثر وأسعار أقل قد تمنع القادم من كساد اقتصادي غربي يجرّ العالم معه.

التناقضات الأميركية بالأساس سياسية، كما شاهدنا في سيرة تعاملها مع السعودية منذ تولي الإدارة الحالية السلطة. سيذهب بايدن إلى السعودية وقد تآكل ما يمكن أن يطلبه منها. فهو عندما يقول إنه لن يطلب من الرياض زيادة الإنتاج، فلأنه صار من المعروف أنه لا يوجد ما يطلبه منها بالأصل. قمة جدة القادمة التي تم تسويقها أميركياً لصالح الرئيس على أنها مثال لتضحيته في تجاوزه مبادءه القائمة على حماية حقوق الإنسان ودعم الديمقراطية مقابل سعر أقل لغالون البنزين، فقدت جدواها الاقتصادية حتى قبل أن تبدأ.

من دون أن تحل واشنطن من عقد تناقضاتها، فإنه من الصعب بمكان أن نجد مخرجا مما هو قادم من أزمات في التوريدات وزيادة الأسعار وتذبذب واردات كل السلع الأساسية، دع عنك واردات القمح. هذه عقد مثقلة بالأوهام، وبعيدة كل البعد عن تغيّرات عميقة يشهدها العالم، ولا يستطيع شيخ مثل بايدن في نهاية حياته السياسية أن يتعامل معها.