في مقال سابق أشرنا إلى أن فوز «بونغ بونغ ماركوس» في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الفلبين جاء بدعم من الرئيس المنتهية ولايته «رودريغو دوتيرتي»، وأن هناك اتفاقًا ضمنيًا بين الرجلين يواصل الأول بموجبه سياسات الثاني الداخلية والخارجية. وهذا ما بدأ يتضح يومًا بعد يوم، ولاسيما لجهة العلاقة مع الصين التي تودد إليها دوتيرتي على حساب روابط بلاده التقليدية مع الولايات المتحدة.

ففي مؤشر واضح لتفضيله الإبقاء على علاقات دافئة وودية مع بكين، قال الرئيس المنتخب خلال خطاب أمام رابطة التفاهم الفلبيني - الصيني في يونيو الجاري أنه سوف يعطي الأولوية خلال فترة قيادته للبلاد لعملية نسج شبكة من التحالفات والشراكات مع الصين بهدف الإسراع في تنمية اقتصاد البلاد، معتبرًا الصين هي الدولة الوحيدة القادرة على «تحقيق الاستقرار لاقتصادنا وعلاجه مما لحق به جراء تداعيات جائحة كورونا». بل راح أبعد من ذلك بقوله: «سوف ننجح في تنفيذ خططنا الاقتصادية بفضل دعم شركائنا وجيراننا الأقوياء وفي مقدمتهم جمهورية الصين الشعبية الصديقة التي قدّمت لنا هبات طبية سخية في أثناء الجائحة»، مضيفًا أن إداراته سوف تحافظ على سياسات الرئيس دوتيرتي الخارجية المستقلة القائمة على مبدأ «اعتماد أقل على الغرب لصالح شراكة استراتيجية أقوى مع الصين»، لأن العلاقة والشراكة مع الصين ـ طبقًا له ـ أمر مهم وذو فائدة لكلا الطرفين ووسيلة للتغلب على كل الصعاب والعقبات.

وهكذا نجد أن ماركوس يعوّل كثيرًا على الصينيين لتحقيق ما وعد به شعبه في أثناء حملاته الانتخابية للوصول إلى قصر مالاقانيانغ الرئاسي، وعلى رأسه التعافي الاقتصادي التام خلال السنة الأولى من رئاسته عن طريق انفاق المزيد من الأموال على التنمية ومشاريع البنى التحتية (خصوصًا وأن الفلبين مدرجة ضمن مبادرة الحزام والطريق الصينية)، راميًا بذلك عرض الحائط نصائح بعض خبراء المال والاقتصاد الفلبينيين ممن اقترحوا عليه شد الحزام مع زيادة الضرائب من منطلق ضخامة حجم الديون المستحقة على البلاد (12.6 تريليون بيزوس وهو ما يعادل 220 بليون دولار أمريكي) وضرورة توفير ما لا يقل عن 60 بليون دولار سنويًا لسدادها بعضها خلال العقدين الحالي والقادم، ومتجاوزا في الوقت نفسه الحقائق المستجدة على أرض الواقع مثل نسب التضخم المتصاعدة يوما بعد يوم، ومعاناة الفلبين كما الكثير من دول العالم من ارتفاع أسعار الطاقة وامدادات الغذاء، وانكماش الاقتصاد وارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي.

ويبدو جليًا أيضًا من مواقف الرئيس الفلبيني المنتخب أنه يحاول التذاكي على بكين عبر فتح أبواب بلاده أمام شراهتها الاستثمارية المعروفة، أملاً في تليين موافقها من قضية الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي والتي نظرت فيها محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي وأصدرت حكمًا عام 2016 لصالح مانيلا لكن بكين لم تعترف به ولم تعره أدنى اهتمام.

تذكرنا مواقف بونغ بونغ ماركوس هذه حيال الصين بمواقف والده ديكتاتور الفلبين الراحل «فرديناند ماركوس». فالمعروف أن الأخير تجرأ، قبل غيره من زعماء دول جنوب شرق آسيا، وعمد في السبعينات المبكرة إلى تطبيع علاقات بلاده مع الصين الماوية، ومذاك وعلى مدى العقود التالية، حافظ آل ماركوس على علاقات تجارية ومالية دافئة مع الصينيين. وهذه العلاقات لئن أفادت آل ماركوس، فإن الفلبين والفلبينيين لم يجنوا من ورائها فائدة تذكر.

وتقودنا الجزئية الأخيرة إلى ما بات قضية خلافية بين الرئيس المنتخب وأقرب مساعديه الاقتصاديين وهو «بنجامين ديوكنو» المرشح الأبرز لتولي حقيبة المالية في الحكومة الفلبينية القادمة. فالأخير أعرب علنا عن عدم تفاؤله بالمراهنة على الصين، قائلاً إن بكين كثيرًا ما وعدت بضخ الاستثمارات الضخمة في الفلبين، لكنها لم تف بوعودها إلا قليلاً. هذا علما بأن الرجل في أثناء توليه حقيبة الميزانية بإدارة دوتيرتي كان من أقوى دعاة الانفاق على مشاريع البنى التحتية ومضاعفة مخصصاتها أملا في التزام بكين بكامل تعهداتها، لكنه صـُدم حينما لم تلتزم بكين حتى بتنفيذ نظام حديث للسكك الحديدية في جزيرة مندناو الجنوبية. لكنه يتبنى اليوم أفكارًا لا تتقاطع مع أفكار زعيمه الجديد محورها خفض الانفاق ورفع الضرائب مع تطوير نظام صارم للجباية، وتخصيص موارد كافية للتنمية البشرية، مؤكدًا أن هذا هو السبيل الأنجع للخروج من المأزق الذي يواجهه الرئيس المنتخب والمتمثل في حاجته إلى ما يصل إلى مائة بليون دولار، فقط من أجل الانفاق على المشاريع المتعثرة التي ورثها من سلفه، حيث تم تنفيذ 12 مشروعًا فقط من أصل 119 مشروعًا، الأمر الذي يجبر الإدارة الجديدة على طلب المعونات المالية من جهات خارجية، ومثل هذا الطلب يحمل في طياته ـ بطبيعة الحال ـ مخاطر تجرعتها بعض الدول الآسيوية والأفريقية النامية، خصوصًا حينما تكون الصين هي مصدر المعونات والقروض.