هل نحن في عصر نزاعات لا يكسبها أحد؟ يتصل السؤال بمجريات الحرب في أوكرانيا، التي تتجسد فيها خصائص النزاع بين أمريكا وروسيا. والسؤال نفسه جاء عنواناً لكتاب «أمريكا في عصر نزاعات لا يكسبها أحد»، من تأليف البروفسورة دومينيك تيرني، الخبيرة في المعهد الأمريكي لدراسات السياسة الخارجية. ويتصل الأمر أيضاً بما أضافه محللون متابعون للأزمة بطرحهم سؤالاً مكمّلاً هو: هل من يشعل النار يقدر على إطفائها؟

وهؤلاء يبنون سؤالهم على مناقشتهم لمؤلفات خبراء ومتخصصين آخرين، تمضي في نفس الاتجاه الذي لا يتوقع أصحابه انتصاراً مؤكداً لأي من الطرفين، وبالتحديد أمريكا وروسيا. ومن هذه المؤلفات كتاب «مجتمع الفوضى» لمؤلفته هادلي بول، والدراسة التي شاركت فيها دومينيك تيرني، ود. ن. جونسون بعنوان «عالم سيئ: سلبية القرار في السياسات الدولية»، وكلها ضمن فيض من مشاركات لخبراء ومؤرخين في تشخيص الوضع الراهن للأزمة حول أوكرانيا.

وكان منه قول تيرني: «هل نحن فعلاً أمام أزمة مستعصية على الحل نتيجة تحيز في السياسات، وأخطاء في اتخاذ القرار، وفقدان فضيلة التعلم من تجارب سابقة منيت بالفشل؟». وكانت تيرني قد أشارت في دراستها بالمشاركة مع د. جونسون، إلى خطأ غزو العراق بوصفه تم تحت تأثير قوى لا تضع في حساباتها العواقب المعاكسة والمحتملة، لما تصوره صانع القرار.
هذا التشخيص لأزمة بدت مستعصية على الحل صاحبه ما يعتبر انقلاباً في المواقف من أزمة أوكرانيا ما بين التعجيل بالتفاوض، إلى إرجائه لأجل غير مسمى، فبعد أن سرت خلال الأسابيع الأخيرة لهجة التهدئة وقرب الدخول في مفاوضات لتحييد الصراع في حالة تعذر إنهائه في الحال، فقد انقلب الحال فجأة بتصعيد لهجة متشددة، تنبئ باستمرار الحرب وانحسار فرص التفاوض، وهو ما وصفته صحيفة «واشنطن بوست» بأن أمريكا وحلفاءها يستعدون لصراع طويل الأمد مع روسيا.
وزاد من قوة هذا الاتجاه المتشدد ما تأمله الإدارة الأمريكية من أن تؤدي الأسلحة التي زاد تدفقها على أوكرانيا (تعززها العقوبات الاقتصادية، والعزلة الدبلوماسية) إلى تراجع استعداد روسيا لمواصلة القتال. وعندئذ تختلف نتائج المفاوضات معها لإنهاء الحرب عما هو متوقع لها، لو أنها جرت الآن، وما لوحظ بعدها في قمة دول السبع من توقف ماكرون ورئيسي ألمانيا وإيطاليا عن تكرار المناداة بالتفاوض. هذه التصورات أكدها ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف «الناتو»، بقوله، إن الحرب في أوكرانيا قد تستمر لسنوات.
هذا التوجه تحدثت عنه وسائل إعلام أمريكية بأن الدعم العسكري المتزايد لأوكرانيا من أمريكا والغرب قد شجعها على التمسك بإرجاء الدخول الآن في مفاوضات جديدة مع روسيا.
في مواجهة هذا الانقلاب في المواقف، تتردد وجهات نظر غربية ترى إمكانية الوصول إلى صيغة لتجميد الصراع إذا تعذر إيقاف الحرب، وأن هذه الصيغة يمكن أن تكون على شكل هدنة، حتى لو اتخذت لنفسها شكلاً آخر للحرب الباردة.
وهناك بعد آخر للتعثر في إيجاد حل قريب، يشرحه إيفان كراستيف،الخبير في مركز الدراسات الاستراتيجية الليبرالية في بلغاريا، ويقول إن هناك انقساماً بين معسكرين رئيسيين في الغرب، حتى لو لم تكن لهما صفة رسمية على مستوى الحكومات، أحدهما يعرف ب«حزب السلام»، ويريد إنهاء القتال وبدء المفاوضات في أسرع وقت ممكن، والمعسكر الثاني يعرف باسم «حزب العدل»، ويعتقد أنصاره أنه يجب على روسيا أن تدفع ثمناً غالياً جزاء ما اعتبروه عدواناً على أوكرانيا.
والواضح أن شقة الخلاف بينهما لا تزال واسعة، فحزب السلام يشعر بالقلق من تضاعف الخسارة الاقتصادية والبشرية على أوكرانيا وبقية العالم، كلما طال أمد القتال، وعلى النقيض منه يرد حزب العدل بإمكان كسب الحرب، إذا مضى الوقت بلا تفاوض، وبمزيد من السلاح لأوكرانيا.
المشكلة شديدة التعقيد، كما يبدو للجميع، وذلك راجع إلى وجود دوافع أخرى للنزاع، خارج إطار أوكرانيا والحرب مع روسيا. لقد فوّتت أمريكا فرصاً كانت سانحة لسد الطريق أمام هذه الحرب من قبل أن تشتعل بوقت طويل، لو أنها استجابت لمطالب الرئيس بوتين بالجلوس معاً في مفاوضات يشرح فيها ما تعتبره روسيا تهديداً لأمنها القومي، بدلاً من تمدد حلف «الناتو» إلى جوار حدود روسيا، وأيضاً ما طرحه بوتين من أفكار أخرى للتعاون بين روسيا وأوربا، وهو ما قوبل بالتجاهل، أي أن فرص إغلاق الباب أمام تلك الأزمة كانت متاحة، لكنها لم تجد من ينتهزها، والنتيجة دخول العالم بأكمله في أجواء نزاعات لا يكسبها أحد.