يصعب التصديق بأن الرئيس ميشال عون منزعج من البيان الذي تلاه وزير الخارجية عبدالله بو حبيب واعتبر فيه بعد لقائه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، أن إرسال المسيرات الثلاث غير المسلحة من قبل «حزب الله» إلى حقل كاريش «غير مقبول»، وصنفه بأنه خارج السياق الدبلوماسي.

فالوزير بو حبيب ينسق مواقفه مع رئيس الجمهورية، إن مباشرة أو غير مباشرة. قد لا يكون أخذ برأي رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، لكنه وضع عون وفريقه في أجواء ما سيصدر.

وإذا كان البيان صدر بعد ضغوط أميركية طالبت بتبرؤ السلطات اللبنانية من العملية التي قام بها «حزب الله»، فإن الرئيس عون اطلع على هذه الضغوط، ليس فقط من بو حبيب، بل أيضاً من نائب رئيس البرلمان الياس بو صعب، الذي تلقى اتصالات من الموفد الأميركي آموس هوكشتاين، ومن السفيرة في بيروت دوروثي شيا. وهذه الاتصالات لم تستثنِ وزير الخارجية بطبيعة الحال، الذي من اختصاصه اتخاذ المواقف في حالات كهذه.

إشاعة الأجواء بأن الرئيس منزعج تهدف فقط إلى استدراج التأييد لخطوة المسيّرات من «التيار الوطني الحر»، ومن الحلفاء اللصيقين، وللإيحاء بأن الرئاسة باقية إلى جانب الحزب حتى لو صدر الموقف عن وزير من المحسوبين عليه. فريق الممانعة ينظر بريبة دائمة إلى موقف الفريق الرئاسي في المفاوضات على ترسيم الحدود البحرية، وإلى ما يمكن أن يقدمه من تنازلات، لأهداف مصلحية، ويريد منه أن يثبت ولاءه للتحالف معه في كل لحظة، وللإفادة من تغطيته السياسية لما يقوم به. فغياب هذه التغطية ينزع المظلة اللبنانية عن الرسالة التي توخاها من وراء إطلاق المسيرات، ويجعل الوظيفة الإيرانية لتلك الرسالة مكشوفة بالكامل. وهي وظيفة تعددت تفسيراتها والتكهنات حولها، بدءاً بالرد على الموقف الأميركي بعد 3 أيام على فشل مفاوضات الدوحة حول النووي ورفع العقوبات الأميركية، مروراً بمواكبة المسيّرات لزيارة وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان إلى دمشق في اليوم نفسه، بالتزامن مع انعقاد الاجتماع التشاوري لوزراء الخارجية العرب في بيروت الذي اكتسب رمزية الإصرار على تكريس الحضور السياسي العربي في بيروت، في مقابل النفوذ الإيراني الذي يشكو القادة العرب من تطابق بعض السلطة اللبنانية معه.

اذا تجاوزنا الرسالة الأساس، لإطلاق المسيرات الثلاث في 2 تموز، وخلفياتها الإقليمية، من بين الرسائل المتعددة المقصودة، فإن للوظيفة الإيرانية لهذا الحدث تداعيات داخلية عدة.

وإذا كان من تلك الوظائف المحلية الرد على الحضور العربي في لبنان لأنه حضور قد ينافسه في لعب دور في اختيار الرئيس المقبل للجمهورية، فإنه بالعملية التي نفذها تسبب بارتداد كل ذلك ضده. والمجتمع الدولي والعربي يتطلع إلى وجود رئيس للجمهورية لا يكون في نهجه الإقليمي استمراراً وامتداداً للنهج الذي اتبعه الرئيس عون بتغطية كل ما يقوم به الحزب على الصعيد الإقليمي. فالتصرف المنفرد والقفز فوق إعلانه أنه يقف خلف موقف الدولة اللبنانية في العملية التفاوضية التي يتولاها الوسيط الأميركي، ينسف أسس التفاوض اللبناني لأنه تجاوز الخط 23 الذي اعتمده لبنان أساساً للتفاوض وذهب بعيداً نحو منطقة واقعة بين هذا الخط والخط 29.

من ارتدادات عملية المسيرات وردة الفعل عليها من قبل ميقاتي وبو حبيب، أن الحزب، ومن ورائه إيران، لم يستوعب بعد أن هناك تغييراً مهماً في المزاج الشعبي والسياسي العام ولا سيما على الصعيد المسيحي، ظهر في الانتخابات النيابية ضد هيمنته على القرار السياسي في لبنان، لا بد من أن ينعكس على مستقبل التركيبة الحاكمة في البلد، وعلى الرئاسة المقبلة. وإذا كان الحزب نجح في استيعاب أضرار هذا التغيير على الصعيد المسيحي، لأن «التيار الحر» اضطر لوضع بيضه في سلة التحالف مع الحزب للحد من خسائره انتخابياً، فإنه سيصعب عليه الاستمرار في سياسة وضع اليد والفرض، على السلطة.

بات من شروط اللعبة وضروراتها، منذ انفجرت الأزمة مع دول الخليج قبل نيف وسنة، أن تعلن الحكومة اللبنانية عدم موافقتها على انفراد الحزب بالسياسات التي تلزم لبنان بتداعياتها السلبية عليه. فهذه الدول تدرك أن القوى السياسية السيادية غير قادرة على وقف الحزب عند حده ولذلك أعلنت حين سحبت السفراء انتقادها لما سمته «تجاهل السلطات اللبنانية للحقائق وعدم اتخاذها الإجراءات التصحيحية...».

القاعدة باتت عدم «تجاهل» الحكومة ما يقوم به الحزب خارج مسؤولية الدولة. منذ حينها أدرك ميقاتي أن عليه إصدار الموقف الذي يعاكس ما يصدر عن الحزب من أقوال وأفعال، اذا كانت مخالفة للسياسة العامة للدولة. وهو رد قبل أشهر على مواقف لنصرالله ضد السعودية، معتبراً أنها خارجة عن الشرعية اللبنانية فانزعج الحزب من إخراجه عن الشرعية، فاستبدلت العبارة هذه المرة بخروجه عن مسؤولية الدولة.