لم يتردد الرئيس المكلف تشكيل الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي في إعلان موقف تصعيدي من عملية إطلاق "حزب الله" المسيّرات فوق حقل كاريش، إذ أعلن تبرؤ الحكومة منها في ضوء المفاوضات غير المباشرة التي يجريها الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين.

الموقف جاء في لحظة سياسية دقيقة في البلد، في ظل الصراع على الحكومة الجديدة والعجز عن تشكيلها، لكنه لن يذهب إلى صدام مع "حزب الله" أو قطيعة، وإن كان استدعى ذلك من الحزب توجيه رسالة قاسية إلى رئيس الحكومة، أعادت الأمور إلى المرحلة الأولى، خصوصاً أن ميقاتي كان قد غطى سياسات محور الممانعة في الحكومات التي تولى رئاستها، فيما موقفه الجديد يتعلق حصراً بملف الترسيم، من دون أن يعني ذلك سحب مظلة الشرعية عن الحزب وسلاحه.

لكن موقف ميقاتي يعتبر متقدماً لجهة العودة إلى الشرعية اللبنانية، أي الدولة والحكومة في ما يتعلق بقرار الحرب أو السلم، وهو يلبي بنود المبادرة الخليجية التي قدمتها الكويت لإعادة تسوية العلاقات اللبنانية – الخليجية، ويحاول التمايز في معركته التي يخوضها مع رئيس الجمهورية ميشال عون حول الحكومة قبل نهاية ولاية العهد بأربعة أشهر.

والواقع أن موقف ميقاتي هو مجرد رسالة فاجأت "حزب الله" الذي منحه أصوات نوابه خلال الاستشارات النيابية من دون أن يعني ذلك تطابقاً في السياسات، خصوصاً مع التطورات التي شهدها لبنان واشتداد أزمته السياسية والاقتصادية والمالية.

غرّد ميقاتي خارج سرب "حزب الله" في ما يتعلق بملف الترسيم، وأيضاً خارج سياسات عون وتياره "الوطني الحر" الذي لم يسمه نوابه لرئاسة الحكومة. ولا شك في أن ملف الترسيم والمواقف منه سينسحب على تشكيل الحكومة، وقد يفرض بنوده أيضاً على انتخابات رئاسة الجمهورية. فقد بات واضحاً في التركيبة اللبنانية أن كل طرف يشتغل وفق حساباته، وإن كانت هناك صراعات بين محورين رئيسيين. "حزب الله" وعون و"التيار الوطني الحر" على موقف واحد من ترسيم الحدود، خصوصاً أن الحزب لم يتحدث عن الخط 29، فيما رئيس الجمهورية لم يوقع تعديل القانون المتعلق به ويصر على معادلة "قانا مقابل كاريش"، وعلى ما أعلنه رئيس "التيار" جبران باسيل من ضرورة استفادة لبنان من قوته التي يملكها، أي "حزب الله" وصواريخه ومسيّراته.

"حزب الله" الذي يريد تغطية ميقاتي، يسعى إلى حكومة تتناسب مع سياسته، لكنه أيضاً لا يضغط على عون في ما يتعلق بشروطه التي يحاول فرضها على ميقاتي لتشكيل الحكومة، وهو في الوقت نفسه يضع شروطاً على ميقاتي تتعلق بالسياسة الخارجية، إلى شروط سياسة داخلية وأيضاً في ملف الترسيم، وقد كان الحزب واضحاً في الموقف الذي أبلغه لميقاتي، وهو يشدد على ضرورة أن يستفيد لبنان أو الدولة من قوة "حزب الله" لتعزيز موقعه التفاوضي، أي أن يلتزم رئيس الحكومة بشروط الممانعة السياسية والمتعلقة بالمعركة مع إسرائيل، بما فيها ترسيم الحدود.

سجل ميقاتي موقفاً، وهو له حساباته كرئيس حكومة بعلاقاته القوية بالفرنسيين وأيضاً الأميركيين، لكنه لن يتخطى ذلك، باعتبار أنه كُلف برئاسة الحكومة برافعة شيعية بالدرجة الأولى، فيما "حزب الله" أوصل رسالته الداخلية والإقليمية من خلال تثبيت قدرته على إطلاق المسيّرات فوق حقل كاريش، بما يعني استعداده للمواجهة، وإن كانت حساباته إقليمية إيرانية أولاً وأخيراً، ثم بتأكيده أنه يملك السلاح الضروري للمواجهة على الرغم من الضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية واستهدافها لشحنات الأسلحة في سوريا.

وعندما يطلق "حزب الله" مسيّرات فوق حقل كاريش فهذا يعني أنه يملك سلاحاً قادراً على اختراق المنطقة، وذلك على الرغم من أن إسرائيل لم تتراجع عن التنقيب وتجهيز منصة الحفر لاستخراج الغاز، وهو ما يفتح على إمكان استئناف المفاوضات غير المباشرة برعاية أميركية.

تندرج عملية إطلاق "حزب الله" لمسيّراته فوق حقل كاريش أيضاً كرسالة في إطار الضغط على التفاوض، واستعراض القدرات للتدخل في أي لحظة إقليمية مواتية تصل فيها مفاوضات المنطقة إلى طريق مسدود. تبني "حزب الله" للعملية، لا يرتبط برد مباشر على ما أبلغته إسرائيل لهوكشتاين، إنما للقول إن هذا الملف هو بعهدة الحزب وأي تقدم فيه لن يمر دون موافقته، وهو الأمر الذي تنبه إليه ميقاتي في رده المحدود ومعرفته بأنه سيتعرض لضغوط وأيضاً لتقييد، خصوصاً أن رسالة "حزب الله" هي أيضاً إيرانية في غير اتجاه.

الرسائل قد تفعل فعلها، لكنها أيضاً سلاح ذو حدين، فإسرائيل مثلاً وضعت شروطاً أبرزها الخط المتعرج، والحصول على مساحة موازية لمساحة حقل قانا. وجرى تسريب معلومات أنها تطالب بأن يدفع لبنان مبالغ لقاء تنازلها عن حصتها من قانا، وهذا في حد ذاته يعقد استئناف المفاوضات، لكنه لا يؤدي إلى تفجير المنطقة، ما دام الأميركيون يريدون الحفاظ على الاستقرار في الجبهة الجنوبية ويصرون أيضاً على إنجاز ملف الترسيم.

الأمور لا تزال في بدايتها، فرغم الاستعجال الأميركي للترسيم، إلا أنه يطرح تساؤلات عما إذا كان هوكشتاين قد تمكن فعلاً من تذليل العقبات لاستئناف المفاوضات اللبنانية – الإسرائيلية غير المباشرة، أو أنه ركز على منع التصعيد، والإبقاء على الستاتيكو القائم تحضيراً لجولات مقبلة. لذا سيكون التفاوض طويلاً ومعقداً، وقد يتخلله تصعيد بين "حزب الله" وإسرائيل لتحسين شروط لا تتعلق فقط بالترسيم بل بملفات إقليمية. فالأولوية الأميركية هي للغاز والنفط في المنطقة، لكنها لا تضع لبنان ضمن حساباتها، والدليل على ذلك أن شركات التنقيب الدولية تواجه صعوبات في لبنان الذي لم يتمكن من التقدم خطوة واحدة في مجال التنقيب.

المشكلة أن الأميركيين بتركيزهم على ملف الترسيم، يؤكدون أن لا حل في البلد إلا من بوابته، وهذا يعني وفق مراقبين وجهات عدة أن الأزمة مستمرة، وتنعكس استنزافاً للبلد في مختلف ملفاته، خصوصاً الحكومة والرئاسة، إذ إن ملف الغاز والنفط هو مشكلة عالمية وسيؤدي إلى اصطفافات بين محاور المنطقة، قد يدفع لبنان ثمنها، من دون أن ننسى أن مسار التفاوض النووي بين إيران والغرب له انعكاساته على البلد، فإذا بقي في حالة انسداد فقد نذهب إلى صدام، لا يعود الحديث عندها عن ملف الترسيم ولا إبقاء الجبهات هادئة في المنطقة كلها.