في المقال السابق، ناقشنا بعضاً مما ورد في كتاب «النظام العالمي»، الذي نشره هنري كيسنجر عام 2014م، ووعدنا بمناقشة المزيد. وسنكرس مناقشتنا في هذه القراءة، على النقاط التي سبق وأن تعرضنا لها بشكل مختصر في القراءة السابقة.

كان مرتكز كيسنجر في حديثه عن النظام العالمي، هو اتفاقية ويستفاليا، التي اعتبرها المدماك الأول، في تأسيس عقود ناظمة للعلاقات الدولية، مع تأكيد أن تلك الاتفاقية اقتصرت على القارة الأوروبية، ولم يكن الهدف منها، بأي شكل من الأشكال وضع ركيزة لشكل العلاقات بين الدول. وليس بالإمكان اعتبارها فقط نتاجاً لتراكم تاريخي، أسس لقيام شكل جديد من العلاقات بين الدول. لقد كانت تلك الاتفاقية استجابة لوضع خاص بالقارة الأوروبية، وأملتها ضرورات السلم، وتحقيق الأمن وسبيلاً لإنهاء الحروب، التي سادت القارة لعدة عقود، وتسببت في مصرع ملايين البشر.

نساجل في هذا الحديث، بأن اتفاقية ويستفاليا، هي محطة عابرة، لها ما بعدها، وأن تأثيرها كان محدوداً ولفترة قصيرة، بحيث لا يمكن اعتبار ما حققته بوصلة إنقاذ للبشرية. فالاتفاقية لم تمنع تكرار الحروب بالقارة الأوروبية، ولم تضع ضوابط عملية تحول دون اندلاع الحروب، حتى ضمن البيئة التي خرجت من رحمها تلك الاتفاقية.

انطلق كيسنجر في قراءته وتحليله، من مركزية غربية خالصة، سمتها الانتقائية. وتناسى أن الحروب الكبرى في التاريخ الإنساني بشكل عام، وفي العصر الحديث بشكل خاص مسرحها الأصلي القارة الأوروبية. ولم تحّل اتفاقية وستفاليا، دون ارتكاب حروب إبادة ضد البشرية، لم تشمل القارة الأوروبية وحدها، بل امتدت للقارتين الأمريكيتين، وأستراليا، وشهدت اجتثاثاً شاملاً للسكان الأصليين، كما هو الحال، وعلى سبيل المثال لا الحصر، مع من باتوا يعرفون بالهنود الحمر.

ويمكننا القول، بقليل من التحفظ، إن اتفاقية ويستفاليا، ما كان لها أن توجد لولا الصراعات الدامية، التي عانتها القارة الأوروبية. بمعنى، أنها كانت نتاج أزمة، ولم تكن عملاً ابداعياً محضاً، يضاف إلى الابداعات البشرية. ولم تكن أمم آسيا وإفريقيا، في حينه بحاجة إلى تمثل تلك الاتفاقية، لأن توازنات القوة، لم تكن متعادلة بين المتصارعين فيها. فالحكم العثماني، بدأ يتوسع في كل الاتجاهات، بشكل دراماتيكي، منذ عهد السلطان محمد الفاتح، وتواصل ذلك في عهد السلاطين، بايزيد وسليم، وسليمان القانوني. وكان قادراً على حسم معاركه. وقد وصلت جيوشه إلى النمسا، في عهد السلطان سليمان القانوني. كانت نقطة الضعف لدى السلطنة في حينه، هي مع إيران، جارة تركيا، حيث لم تتمكن جيوش المتحاربين من حسم المعركة لصالح أحدهما، ما اضطرهم لعقد هدنات متكررة بين الطرفين، ما تلبث أن تنهار عند شعور أحدهما بإمكانية حسم الحرب لصالحه.

بالتأكيد لم يجر الحديث في الاتفاقيات السابقة، عن الاستقلال والسيادة، لأن هذه المفردات ارتبطت بنشوء الدولة القومية في أوروبا. وهنا يبرز سؤال جوهري ومُلح: لماذا لم يبرز قائد أوروبي واحد قادر على توحيد القارة، كما حدث مع الإمبراطورية الصينية، والفتح العربي، والسلطنة العثمانية، مع أن جميع اللغات الأوروبية، تنحدر من لغة واحدة هي اللغة اللاتينية؟.

ولعل الجواب يكمن في ازدواجية تركيبة القوة السياسية في أوروبا. فسلطة البابا في روما، كانت على الدوام، وبشكل خاص أثناء الحروب الصليبية، تكاد تكون شاملة على القادة الأوروبيين. ولم يكن في مصلحة الكنيسة تحقيق أي وحدة سياسية في أوروبا، لأنها ستضعف من هيمنتها على القارة، وقادتها. وهكذا بقيت القارة الأوروبية مجزأة، ولم تتمكن من الإمساك بزمام مقاديرها، إلا بعد تحقيق هزيمة الكنيسة، وإجبارها على التراجع، إلى حي صغير، في مدينة روما، هو الفاتيكان، تمارس فيه، سلطتها الروحية، على المؤمنين، ولتعيد التمييز بين ما لله وما لقيصر.

في الحالات التي أشرنا لها، وبشكل خاص في الحضارة العربية الإسلامية، وأثناء السلطنة، كان التمييز واضحاً بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، وكانت الأرجية في إدارة أمور تلك البلدان للساسة وليس لرجال الدين. ذلك لا يعني بأي شكل من الأشكال انتقاصاً من المؤسسة الدينية أو تقليل من الدور الذي تمارسه.

بلغت قمة الحروب الأوروبية، في الحربين العالميتين، الأولى والثانية، وكانت قمة توحشها قد اتضحت بعد استخدام الولايات المتحدة لسلاح الرعب النووي، ولأول مرة في التاريخ، وتدمير مدينتي هيروشيما ونغازاكي. وكان ما بعدها جبروت القوة يفرض سطوته وبأسه على المهزومين، ولم تكن حرية اختيار، سيادة عقيدة المنتصر، كما أشار كيسنجر، بل قانون الغالب والمغلوب.