هل يمكن أن تفضي الزيارة المرتقبة للرئيس الفرنسي ماكرون للجزائر إلى تصفية ملف ذاكرة الاستعمار الفرنسي للجزائر، والملفات السياسية الراهنة الأخرى ذات الطابع الإقليمي وغيرها من المشكلات العالقة؟ وهل سيكون النشاط الدبلوماسي الفرنسي الذي شهدته احتفالات الجزائر بعيد استقلالها يوم الثلثاء الماضي من هذا الشهر الجاري بداية لذلك؟

لقد تميز هذا النشاط الدبلوماسي الفرنسي بحدثين متزامنين، يتلخص أولهما في رسالة التهنئة التي أرسلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الرئيس الجزائري، حيث اتسمت بلهجة ودية تنم عن رغبة فرنسية غير مباشرة في إذابة الجليد الذي طبع العلاقات الجزائرية الفرنسية لمدة طويلة، جراء ملفات عدة معقدة ومختلف عليها، وتصريحات فرنسية سابقة اعتبرتها الجزائر تطاولاً على الهوية الوطنية التاريخية.

في رسالته الناعمة إلى الرئيس تبون قال الرئيس ماكرون: "السيد الرئيس وصديقي العزيز، يسعدني في هذا الخامس من تموز (يوليو) والجزائر تحيي ذكرى استقلالها الـــ60 أن أوجه، باسم فرنسا وأصالة عن نفسي، لكم وللجزائر وشعبها رسالة صداقة وتضامن مشفوعة بأصدق التهاني لبلادكم".

في هذه الرسالة أشار الرئيس ماكرون أيضاً إلى قبوله دعوة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لزيارة الجزائر دون أن يحدد تاريخ هذه الزيارة، ولكن ينتظر أن تتم قبل نهاية هذا الشهر كما أشارت إلى ذلك تسريبات نشرتها وسائل الإعلام الجزائرية الرسمية والتابعة للقطاع الخاص.

أما بخصوص أهداف هذه الزيارة المرتقبة، فقد أبرز الرئيس ماكرون بأنه يريد أن تكون فرصة لرسم معالم تضمن استقرار العلاقات الثنائية بين البلدين. ويبدو أن الطرف الرسمي الجزائري متفائل أيضاً بإمكانية عودة الدفء إلى العلاقات الفرنسية الجزائرية، وقد عبرت خلال هذا الأسبوع عن هذا التفاؤل يومية الشروق الجزائرية المقربة من أجهزة الحكم في الجزائر بقولها: "تتجه العلاقات الجزائرية الفرنسية نحو استعادة عنفوانها الضائع بعد ما يقارب السنة من غياب الاستقرار.."، ثم أبرزت الصحيفة نفسها أن هذا التقارب الفرنسي الجزائري المنتظر "سيكون على حساب بعض حلفاء باريس في حوض البحر المتوسط الغربي"، وتقصد بمصطلح حلفاء باريس كلاً من المغرب وإسبانيا تحديداً.

وفي هذا الصدد، يرى مراقبون سياسيون أن تلميح هذه الصحيفة ليس مجرد تكهنات أو افتراضات خاصة بها، ل هو نقل غير مباشر لمعلومات سربتها إليها جهات معينة في أعلى هرم السلطة الجزائرية، وذلك بهدف اختبار ردود فعل الرئيس ماكرون والحكومة الفرنسية، ولكن هناك من يعتقد أن هذا التأويل لا يستند، ربما، إلى قراءة موضوعية لالتزامات الدولة الفرنسية الثابتة تجاه إسبانيا التي هي عضو في الحلف الأطلسي، وفي الاتحاد الأوروبي الذي ترأسه فرنسا حالياً، ويستبعد المحللون السياسيون أن تجرّ الرئاسة الفرنسية إلى خوض صراع حاد داخل البيت الأوروبي والأطلسي مع إسبانيا على كعكة الغاز الجزائري.

أما بخصوص المغرب، فإن التحليلات السياسية المختلفة ترى أن فرنسا يصعب أن تغير مواقفها على نحو راديكالي يفضي بالنتيجة إلى صدام عنيف يخلخل أركان بنيان العلاقات الفرنسية المغربية.

بناءً على ما تقدم، يعتقد الخبراء السياسيون أن زيارة ماكرون للجزائر ستركز جوهرياً على إطلاق حوار ثنائي بهدف ترتيب العلاقات الثنائية الاقتصادية، بما في ذلك مسألة الغاز، وينتظر أيضاً أن تستثمر هذه الزيارة بفتح حوار حول ملفي مالي وليبيا، ويمكن جداً أن تقدم فرنسا في هذه المناسبة بعض التنازلات الطفيفة ذات الصلة بـ"ملف الذاكرة" قد تصل إلى تقديم "اعتذار رمزي" عن الاحتلال الاستعماري الفرنسي وتداعياته، دون أن يشمل ذلك البت عملياً في قضية التعويض المادي عمّا تعتبره الجزائر جرائم فرنسا الاستعمارية.

أما الشق الثاني من هذه الحركة الدبلوماسية الفرنسية المذكورة آنفاً فيتمثل في استقبال الرئيس تبون لمدة ساعة كاملة المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا الذي يمثل الرئيس ماكرون في قضية معالجة "ملف الذاكرة" التاريخية الجزائرية الفرنسية.

والجدير بالذكر هنا هو أن المؤرخ بنيامين ستورا قد ظهر أمام الرأي العام الجزائري كمبعوث خاص للرئيس ماكرون، حيث سلّم للرئيس تبون رسالة من الرئيس ماكرون، الشيء الذي يعني أن هذا الاستقبال له صبغة رسمية، علماً أن ستورا قد شارك كذلك في احتفالات الذكرى الستين لاستقلال الجزائر إلى جانب ضيوف الجزائر الرسميين في المنصة الشرفية.

ومن الواضح أن وسائل الإعلام الجزائرية قد اكتفت بالإشارة إلى بنيامين ستورا كمؤرخ فرنسي فقط، ولم تذكر أنه يهودي جزائري الأصل أيضاً، وأنه من مواليد محافظة قسنطينة بالشرق الجزائري التي كان ينتمي إليها (قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر وأثناءه) عدد معتبر من أجداد يهود الجزائر وأحفادهم، منهم على سبيل المثال، المغني الفرنسي الشهير أنريكو ماسياس، وثلة من الموسيقيين والمغنين الآخرين الذي يعتبرون في التاريخ الفني الجزائري من بين رواد موسيقى "المالوف" و"الحوزي".

تفيد تصريحات بنيامين ستورا لوسائل الإعلام، وذلك بعد لقائه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، أنه قد ناقش معه "مفهوم الماضي الاستعماري" الفرنسي في الجزائر، وأكد له الرئيس الجزائري أنه من الضروري أن تتخلى فرنسا عن حصر ملف الذاكرة في فترة الحرب الممتدة من عام 1954 إلى عام 1962م، وأن تستبدل ذلك بتوسيع المجال الزمني ليشمل مرحلة الاحتلال بكاملها بدءاً من عام 1830م. في هذا السياق، نقلت الصحف الجزائرية عن المؤرخ ستورا أنه "قد وافق الرئيس الجزائري تبون على العمل على ذاكرة كامل مرحلة الاستعمار وليس الاقتصار على حرب التحرير وحدها (1954-1962)"، وتعني موافقة ستورا الذي هو ممثل الرئيس ماكرون، على هذه المدة، أن قصر الإليزيه موافق ضمنياً أيضاً.

وينظر المراقبون الجزائريون الذين يتابعون عن كثب تطورات قضية "ملف الذاكرة" المعقدة إلى هذا التصريح الذي أدلى به بنيامين ستورا، على أنه بمثابة إعلان ضمني إيجابي عن مسار جديد للحوار الذي سيجري في قادم الأيام بين الطرف الجزائري والطرف الفرنسي حول الآليات التي من شأنها أن تضع أسساً جديدة لحل مشكلات هذا الملف الكولونيالي الذي ما فتئ يسمّم العلاقات بين البلدين.