"مصيبة تتجمع بسبب الديون العالمية، خصوصا في الدول النامية"
كريستالينا جورجييفا رئيسة صندوق النقد الدولي

تحاول الحكومات حول العالم تعليق ارتفاع حجم ديونها على أزمات عالمية، وليس لسوء إدارتها الاقتصادية لدولها. وهذا مفهوم تماما. فلا تريد أي حكومة أن تتحمل وزر زيادة الديون، وهي تعلم أن أعباء هذه الأموال ستنتقل حتما إلى أجيال مقبلة لم تستلفها أساسا. لكن الأمر ليس كذلك تماما. فقبل الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في 2008، بلغت ديون الدول حدودا تاريخية من حيث ارتفاعها، من جهة مواصلة الحكومات على الاقتراض. وهذه الأزمة زادت بالفعل حجم الديون، إلا أنها لم تكن السبب. وقبل ظهور جائحة كورونا التي دفعت الاقتصاد العالمي إلى الانكماش، بل الركود، كانت الديون قد بلغت مستويات مرعبة. ففي 2019، الذي سبق عام الوباء، سجل الدين 197 تريليون دولار، بحسب صندوق النقد الدولي، مرتفعا تسعة تريليونات دولار عن 2018، أي ما يوازي أكثر من 225 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي.
صحيح أن الأزمات، ولا سيما الكبرى منها، تسهم في رفع مستويات الدين، خصوصا إذا ما حدث انكماش أو ركود هنا وهناك، لكن الصحيح أيضا أن الديون المتراكمة على الدول، توالدت عبر سياسات اقتصادية تعتمد أساسا على الاقتراض لتمويل الموازنات العامة. فلا غرابة مثلا أن يصل حجم الدين العام في بلد كاليابان، الذي يحتل المركز الأول في قائمة الدول الأعلى مديونية، إلى 257 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي، فضلا عن دول تعاني مصاعب اقتصادية، مثل اليونان التي سجلت ديونها 207 في المائة من حجم ناتجها، وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا ودول أوروبية أخرى، صارت كلها ضمن القائمة المشار إليها. وإذا كانت هذه الدول قادرة على السداد، وعلى مواجهة أعباء الديون بحكم قوتها الاقتصادية، فإن دولا نامية تعجز عن ذلك، بل إن بعضها تخلف بالفعل عن السداد في الأعوام القليلة الماضية.
وخلال تفجر كورونا اضطرت الدول الدائنة إلى إعادة جدولة بعض ديونها الواجبة على دول نامية متعثرة، كما أنها جمدت السداد لفترة، ما يعزز حقيقة "المأساة" الاقتصادية المؤجلة، التي يمكن أن يتوسع نطاقها في أي وقت، خصوصا في ظل حالة عدم اليقين التي يمر بها الاقتصاد العالمي ككل، والخوف ليس من تراجع النمو، بل من الدخول في فترة ركود أخرى، ولم يمض على تلك التي سبقتها أكثر غضون عام ونصف العام. السؤال الأهم هنا، لا يكمن في حجم الدين العام في الدول النامية فحسب، بل في القدرة على تحمل أعبائها. فغياب هذه القدرة يعني قطعا أن الدول المعنية ستعجز عن السداد وستدخل في دوامة لا يمكنها الخروج منها لعقود من الزمن، خصوصا إذا ما كانت اقتصاداتها هشة.
الذي يرفع من حجم المخاطر في الدول المشار إليها، أنها تقترض بتكاليف عالية، ونحن هنا لا نتحدث عن مؤسسات مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، التي تكون قروضهما عادة مرتبطة بمستويات التنمية المطلوبة، التي تصب في النهاية في مصلحة هذا البلد أو ذاك على المديين المتوسط والبعيد، بصرف النظر عن الضغوط الاجتماعية الآنية الطبيعية التي تنتج عنها. حتى ما يعرف بـ"المقرضين متعددي الأطراف" الذي يقدمون قروضهم بفائدة ميسرة ومدة سداد مريحة، تراجع عددهم في الأعوام الماضية، ما أجبر الحكومات على البحث عن قروض بأي ثمن، لتأمين الإنفاق المحلي. في غضون 12 عاما انخفضت نسبة المقرضين متعددي الأطراف من 56 إلى 8 في المائة، بمن فيهم "نادي باريس".
هنا تتجمع مصائب الديون أكثر وأكثر، على الدول النامية، ولا سيما في ظل التحولات الاقتصادية العالمية الراهنة، الآتية بصورة أساسية من إقدام البنوك المركزية الرئيسة على رفع الفائدة في تحرك نادر لها، من أجل كبح جماح التضخم، وإن أدى ذلك إلى ضرب النمو في دولها. ماذا يعني ذلك؟ سترتفع حتما تكاليف الديون المقومة بالدولار الأمريكي، ما يزيد من الضغوط، بل المشكلات الاقتصادية المحلية في الدول المقترضة، التي لن تكون قادرة على السداد، ليس لعدم توافر الأموال اللازمة، بل لتراجع قيمة عملاتها المحلية. حتى إن تمت إعادة جدولة الديون، فإن الأمور لن تكون بالسهولة المأمولة لطرفي المعادلة، دون أن ننسى بالطبع أن معظم هذه الديون تتجه إلى سداد الفواتير، بما في ذلك دفع أجور العاملين في القطاع العام هنا وهناك.
باختصار، ليست ديونا منتجة أي داخلة في استثمارات تحتاج إليها الدول النامية كلها. من هنا، على الدول المؤثرة عالميا، خصوصا الدول التي توفر القروض ومعها المؤسسات الدولية الحريصة على إيجاد التوازن الاقتصادي بطرق سليمة، أن تواصل التمسك بـ"شروطها" الهادفة لتعزيز النمو، عن طريق سلسلة جديدة من القوانين الداخلية التي تحفز الاستثمارات المحلية والأجنبية، وعبر تعزيز المنافسة. فنسبة كبيرة من الدول النامية تتمتع بالفعل بتسهيلات تجارية منذ عقود، تمكنها من دفع عجلة الإنتاج والنمو بوتيرة أسرع. إنها مسألة تتعلق بالنمو الضروري في مواجهة الاقتراض من أجل الإنفاق فقط.