يعتبر حوض البحر المتوسّط مهد الحضارة الإنسانية، وقد لعب دوراً مهماً في تعزيز التواصل بين الشعوب على ضفافه، وهو يمثل موقعاً فريداً ببحره وخلجانه ومضائقه. ومن ينظر اليوم إلى الخريطة السياسية لجانبي البحر المتوسّط يصاب بالذهول، فهذه المنطقة المتشاطئة جيوسياسياً، بين إفريقيا وآسيا وأوروبا، وإن اختلفت أنظمتها وطرائق حكمها، إلا أن علاقاتها الإنسانية مثلت تاريخاً مشتركاً، وهي رمز الإبداع والحكمة في الفلسفة والتاريخ والفن والموسيقى والأدب والعلم والتكنولوجيا، حيث اجتمعت فيها حضارات ما بين النهرين والنيل والأناضول وطروادة واليونان وفينيقيا وقرطاج وروما وبغداد والأندلس وبيزنطة والدولة العثمانية، وتمثل شعوبها ومجتمعاتها وبلدانها التعايش والتنوع والتعددية والتواصل والتفاعل الثقافي والتجاري.

لقد واجهت علاقة شمال المتوسط بجنوبه في الماضي، وتواجه اليوم، تحدّيات مختلفة، بعضها طبيعي مثل التغييرات المناخيّة والحرائق والفيضانات، فضلاً عن جائحة «كورونا»، خصوصا بين 2020 و 2021، كما أن زيادة السكان والهجرة من الجنوب (الفقير)، إلى الشمال (الغني)، تعتبر إحدى التحدّيات الكبرى التي تحتاج إلى تفاهمات دولية على أساس عادل لحلّها، إضافة إلى قضايا الطاقة (النفط والغاز وذيولهما)، والغذاء والتغيرات البيئية، تلك التي ازدادت خلال الأزمة الأوكرانية والاجتياح الروسي.

إن بعض هذه التحديات هي من صنع الإنسان واستغلال أخيه الإنسان، والتغوّل عليه بسبب محاولات الاستقواء وفرض الهيمنة، إضافة إلى البطالة والمخدّرات والإرهاب التي يعانيها الشباب، والأزمة أكبر في العالم الثالث، والتحدّي أشدّ وأكثر عنفاً في ما يتعلّق بالتعصّب ووليده التطرّف والإرهاب.

كيف السبيل لتحويل منطقة البحر المتوسط بضفتيه من منطقة عازلة إلى منطقة واصلة؟ أي منطقة سلام وتفاهم وتنمية ومصالح مشتركة ببعد إنساني ثقافي.

وبغضّ النظر عن التاريخ الاستعماري لبعض دول شمال المتوسط، وما تركه ذلك من ندوب وأحزان وذكريات مؤلمة وتاريخ دموي، لكن ثقافة السلام والتسامح هي التي ينبغي أن تسود لمصلحة شعوب ضفتي المتوسط، بدلاً من ثقافة الانتقام والكراهية، ولكي يتحقق ذلك فلا بدّ من مصارحات ومكاشفات ومصالحات، خصوصاً الاعتراف بما حصل والاعتذار عنه، فليس أحفاد المستعمرين هم المسؤولون عمّا حصل، ولكي تكون الأجواء صحيّة وسليمة، فلا بدّ من تطمين أحفاد الضحايا بالاعتذار لهم عمّا حصل لأجدادهم في بلدان جنوب المتوسط.

المستعمرون والمستوطنون كانوا رأس حربة ضدّ تنمية بلدان جنوب المتوسط، وساهموا في سلب ثرواتها، الأمر الذي اقتضى التعويض، وعلى أقل تقدير، مساعدتها اليوم لتنمية بلدانها وانتشالها من الأمراض والأوبئة والفقر والتصحّر، والإسهام في تقديم الدعم لها لتجاوز أزماتها وإعادة بنياتها التحتي وهياكلها الارتكازية والطرق والجسور والمواصلات في أجواء من الحريّة والسلم المجتمعي.

ولعلّ ذلك لا يعود بالنفع على البلدان النامية في جنوب المتوسط فحسب، بل يعود بالخير أيضاً على شماله، وسيحدّ بلا أدنى شك من الهجرة المتعاظمة، ويُقلّل إلى حدّ كبير من العنف والإرهاب، ويساعد في استثمار الموارد على نحو أكثر عقلانية، وبالتعاون مع دول شمال المتوسّط، والنتيجة ستكون لمصلحة الإنسان بغضّ النظر، عما إذا كان في شمال المتوسّط،أو في جنوبه.

ويمثّل ذلك الوجه الإيجابي للعولمة، بغضّ النظر عن وجهها المتوحّش والموغل في استلاب الإنسان، لكن عولمة الثقافة، بما فيها من فنون وآداب وعمران يعود نفعها على الأفراد والمجتمعات، فالموسيقى واللوحة والمنحوتة والمسرحية والكتب بترجماتها المتبادلة، إضافة إلى الرياضة والسياحة والانفتاح كلّها تعبّر عمّا هو إنساني وعابر للحدود والجنسيات والبلدان، وكذلك عولمة الحقوق الإنسانية، فلم يعد مقبولاً في عالم اليوم، نظرياً على أقل تقدير، قبول استعباد شعب آخر، أو هضم حقّه في تقرير المصير والعيش بسلام.

والعولمة لا تلغي الهويّات الخصوصية، بل تعمل على تنميتها من دون إهمال شروط التطوّر التاريخي التي ينبغي أخذها في الاعتبار، وما هو مهم هو الاعتراف بهذه الخصوصية في إطار التطوّر الكوني وتلاقحها، إضافة إلى المعايير الدولية، إذ لا ينبغي بزعم العولمة إهمال الخصوصيات والتغوّل على الهويّات الفرعيّة، كما لا ينبغي باسم الخصوصيّة والتميّز، التنكّر لما هو مشترك وكوني وإنساني.