ثورة «يوليو» إرث عام، لا يخص تياراً سياسياً بعينه، ولا جيلاً دون آخر. من حق جميع الأطراف الفاعلة في المشهد العام باتساع العالم العربي كله، لا مصر وحدها، أن تبدي وجهة نظرها في «يوليو» بالاتفاق أو الاختلاف، لكن بشرط ألاّ تزيف التاريخ وحقائقه الأساسية.

في سبعينات القرن الماضي إثر حرب أكتوبر أنهيت شرعية ثورة «يوليو» تماماً وانقطعت صلتها بما بعدها من حقب سياسية توالت.


هذه حقيقة يصعب إنكارها، أو التدليس عليها. الانقلاب على «يوليو» وشرعيتها وإنجازاتها وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية لم يلحقه انقلاب على طبيعة النظام السياسي، بصورة تسمح بانتقال واسع لدولة مؤسسات حقيقية، يحكمها القانون والتوازن بين السلطات. وهذه حقيقة أخرى يصعب القفز عليها.

كأي نظام ثوري فهو فعل استثنائي انتقالي، قاد أوسع عملية تغيير في البنية الاجتماعية بالتاريخ المصري كله، أخرج طبقات رئيسية إلى الحياة وتطلعاتها في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية وحقوق العمل وتكافؤ الفرص، وخاض في الوقت نفسه معارك مفتوحة في إقليمه وعالمه، ودخل حروباً طاحنة في الصراع على المنطقة.

بأدوارها التحررية اكتسبت مصر مكانة كبرى في المعادلات السياسية الدولية، قادت تحرير القارة الإفريقية وأسست حركة «عدم الانحياز» مع الهند ويوغسلافيا.

لا يصح أن نحاسب الثورات بغير قوانين حركتها، أو بأهداف غير التي تبنتها، أو خارج السياق الذي عملت فيه والعصر الذي احتضن تفاعلاتها.

هذه هي الأصول العلمية في النقاش العام، أما إهدارها واعتبار كل ما جرى بعدها يدخل في مسؤوليتها، ففيه اعتداء صارخ على الحقائق الرئيسية التي ترتبت على الانقلاب عليها، وفيه تحميل للثورة بأكثر مما تطيقه الحقائق، فالثورة انتهت منذ عقود طويلة، وشرعيتها طويت صفحاتها، والنظم التي تلتها انقلبت على خياراتها السياسية والاستراتيجية.

بعض الكلام ينطوي على تعميم عشوائي دمج بين نظم وعصور متناقضة وأغلبه استهدف التشهير بالتاريخ لإغلاق صفحة جمال عبدالناصر، وما تمثله من قيم أهدرت وأحلام أجهضت.

مع بداية الانفتاح الاقتصادي عام 1974 تردد في السجال العام سؤال العدالة الاجتماعية وطبيعة الانقلابات الجارية في البنية الطبقية للمجتمع، التي نظر إليها على نطاق واسع بأنها قطيعة عند الجذور مع شرعية «يوليو».

كانت انتفاضة الخبز في يناير1977 ذروة الصدام الاجتماعي، فالسياسات تناقضت وتناحرت قبل أن تفترق الطرق إلى الأبد بتوقيع اتفاقيتي «كامب ديفيد» عام (1978).

في يناير (2011) عاد الكلام مجدداً عن «يوليو» من منظور جديد. هناك من حاول أن يصور «يناير» كأنها ثورة على الستين سنة التي تلت «يوليو»، بزعم - لا يمكن إثباته - أنها حقبة سياسية متصلة، شرعية واحدة ونظام واحد.

هكذا تحولت الدعاوى إلى نظرية تستهدف فكرة الثورة ومعناها وأدوارها، التي دفع المصريون أثمانها كاملة. كان ذلك استخفافاً بحقائق التاريخ وهزلاً في مقام الجد.

بحركة الزمن يمكن توقع إضافات جديدة تمنع التعرف إلى مناطق القوة والضعف وفرص التصحيح والإضافة، كأن يحمل عبدالناصر مسؤولية «السبعين سنة»، ثم «الثمانين سنة».. وهكذا بلا نهاية دون إدراك لمغبة ذلك على سلامة النظر إلى المستقبل.

لماذا جمال عبدالناصر بالذات؟ في استهدافه حياً وميتاً شهادة على قوة مشروعه وحجم تأثيره. أي كلام يتجاهل الانقلابات الاستراتيجية والاجتماعية على مشروعه، تجهيل بالتاريخ يستهدف الذاكرة العامة حتى يكفر المصريون بأي معنى حقيقي للثورة، وحقوقهم الطبيعية في التحرر والاستقلال والعدل.

بقوة الفعل التاريخي، لا الافتراضي، اكتسب عبدالناصر شعبيته وامتد إرثه بكل ما فيه من أحلام أجهضت.

حسب تعبير شهير للإمام أحمد بن حنبل عندما اشتدت محنته: «بيننا وبينكم الجنائز». كانت جنازته بحجمها الاستثنائي والحزن العميق فيها شهادة لا تخطئ بعمق تجربته وإلهام مشروعه.

وكان مثيراً طغيان صورته بعد الرحيل؛ حيث مصداقية الرؤية في اختبار الزمن.

بأي نظر موضوعي فإن «يوليو» الحقيقة الكبرى في التاريخ المصري الحديث.

أمام عالم جديد يتبقى من التاريخ دروسه الأساسية وأفكاره وقيمه، التي صاغت مشروعات بعينها.

استوعب عبدالناصر في مشروعه أفضل ما كان مطروحاً من خيارات عصره، دمج التحرر الوطني بالالتزام القومي العربي وبفكرة التغيير الاجتماعي والانحياز للطبقات الفقيرة.

كانت العدالة الاجتماعية صلب قاعدة شرعيته؛ حيث تعلقت باحتياجات البشر في الصحة والتعليم والخدمات الأساسية، وقبل ذلك الحق في العمل وفي عائد الناتج القومي، أن يكون إنساناً كريماً في وطنه وآمناً على مستقبله.

وكانت توجهاته العروبية أفق حركته في محيطه. أية توجهات تكتسب قيمتها من مستويات التزامها.

هناك حاجة حقيقية على مستوى الفكر إلى دمج قيم التعددية والديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان، لا تحتمل أي التواء في صلب المشروع الوحدوي العربي.

قيم المشروع وحدها هي التي تربط بين الإرث والمستقبل، حتى يكون ممكناً أن يقف من جديد على أرض صلبة.

إنكار العدالة الاجتماعية انتقاص من فكرة الحرية نفسها. عندما افتقدنا تراكم التاريخ خسرت فكرة الثورة اتصالها بحقائق مجتمعها وتاريخها، وأفقدت نفسها مرجعيات ترشد دعوتها إلى العدالة الاجتماعية من واقع تجربة مصرية معاصرة.

قوة «يوليو» في مشروعها الذي غيّر خريطة مجتمعها وتجاوز حدودها إلى عالمها. أفضل ما يتبقى من إرثها احتفاظه بقدرته على إلهام المستقبل.

الصراع على «يوليو» هو صراع على المستقبل. على الرغم من ضراوة الحملات عليها، واتصال التشهير بها عقداً بعد آخر، حتى ذكراها السبعين، فإنها تتأبى على مغادرة مسرح التاريخ الفعلي؛ حيث إلهام المستقبل.