منذ أخذ الدّارسون العرب على عاتقهم دراسة الموروث الثّقافي العربيّ الإسلاميّ، مُنْهين بذلك احتكار المستشرقين لدراسات التّراث - وكان ذلك، ابتداءً في العقود الأخيرة من القرن التّاسع عشر- انقسموا على ذلك التّراث إلى فريقين متقابلين في المقالة والمنطلقات والأغراض؛ فريقٌ يلتمس في التّراث حلولاً لمشاكل عصره، وفريقٌ ثانٍ يصرّ على ترديد القول بأنّه ما من حلولٍ لمشاكل عصرنا إلاّ بالتّخلّص من التّراث، والماضي، بما هو عبء كابح.

من الواضح أنّ الثّقافي والمعرفي في هذا السّجال، الذي لم ينقطع حبْلُه بعد، يختلط بالإيديولوجيّ ويتراكب معه حتّى أنّه يتعسّر على المرء إقامة المائز بين المستويين لرؤية المسألة - مثار الجدل - في سياقها الفكريّ المحض بعيداً من اغتراض هذا وذاك. مع ذلك، لا نجد في ذلك التّداخل بينهما ما يبعث على الاستغراب؛ إذِ المسألة التي يُجادَل فيها ( التّراث) هي من النّوع الذي لا يمكن أن ننتظر - بسهولة - رؤية حياديّة إليها من أحدٍ من الجانبين لاتصالها بأغراض إيديولوجيّة. أمّا ما يجعلها كذلك - أي مسألةً إيديولوجيّة يمتنع النّظر إليها بحياد - فمردُّهُ إلى نوع السّؤال الذي يطرحه على نفسه كلُّ فريقٍ بطريقته: ما الفائدة من التّراث؟ وهذا سؤال يقود صاحَبه قَوداً إلى تفكيرٍ إيديولوجي وسجالٍ إيديولوجي.

هل التّراث، حقّاً، مستودعٌ للحلول تجد فيه مجتمعاتنا المعاصرة وثقافتُنا ضالّتها وأجوبَتها عن إعضالات زمنها؟ وفي المقابل، هل هو حقّاً، عبءٌ ثقيل على تلك المجتمعات والثّقافة ينبغي التّحرُّر من أثقاله؟

مَن يَرَوْنَ التّراث مستودعاً للحلول الجاهزة، يكفي أن نضرب بأيدينا فيه حتّى نعثر على التّرياق الشّافي من أَدواء حاضرنا، يفكّرون بعقلٍ فقيرٍ إلى الحسّ التّاريخيّ فيخلطون بين الأزمنة. يتجاهلون الأبجديّات: أنّ التّراث منتوجٌ تاريخيّ عبّر عن حاجات عصره وأجاب عن مشكلات زمنه، ولا مسوِّغ لافتراض التّطابق بين مشكلات ذلك العهد ومشكلات واقعنا الحاضر إلاّ عند وعيٍ يعيش ذلك الماضي ولا يعيش الحاضر؛ ويتجاهلون أنّ افتراضهم صلاحيّة التّراث لتقديم حلولٍ لمشكلات حاضرنا يُضْمِر شديدَ الإساءة إلى التّراث عندما سيَثْبُتُ عجزُه عن إجابة حاجاتنا، وتتبيّن الحدودُ المتواضعة لِمَا تُقَدِّمُه لنا منظوماته الفكريّة؛ إذْ صلاحيّته لعصره لا تعني، في شيءٍ، صلاحيّته لعصرنا لاختلاف الشَّرطين التّاريخيّين. والطامّة الكبرى أنّ مَن يزعمُون هذه المزْعمة لا يروْن من التّراث إلاّ جزأَه الأَبْعَد عن هواجسنا: الجزء المحافظ النّصّيّ والاجتراريّ المُغلَق الذي لا يقترح علينا سوى الانسحاب من زمننا الحديث والانتظام داخل زمنٍ ماضٍ علينا أن نبعث فيه الحياة بعمليّةٍ قيصريّة!

والحقُّ أنّ مَن يَكِلُون إلى التّراث وظيفةَ توفير الأجوبة والحلول لمعضلات الحاضر إنّما يعلنون جَهْراً، استقالَتَهم من النّهوض بمهمّة البحث عن حلول جديدة لتلك المعضلات أُسوةً بما فَعَلَه القدماءُ - الذين يبجّلونهم - مع معضلات عصرهم. إنّهم يفصحون عن عجْز فادح في تحمُّل مسؤوليّتهم تجاه شرطهم التّاريخيّ الخاصّ، ليلقوها على القدماء والأموات!.

أمّا مَن يروْن التّراث عبئاً فيجهلونه ابتداءً؛ ويتخيّلون - ثانياً - أنّ الحاضر والمستقبل ممكنان من دون ذاكرةٍ تاريخيّة. أمّا أنّهم يجهلون التّراث فهم يجهلونه، والشّاهد أنّهم ما ناصبوه العداءَ إلاّ لجهلٍ مكين، ولو هُم تعرَّفوه ما أَتَوْا أفعالَ القدح فيه مثلما هم يفعلون. وأمّا أنّه يجتاح الحاضر فانطباعٌ رديءٌ لأنّ الماضيَ مضى وانقضى، وإذا كان من شيءٍ في الحاضر يبدو وكأنّه من الماضي، فهو من صُنْع حاضر أخطأ الاختيار فاستعار من الماضي ما استعار. وأخيراً، يخطئ هؤلاء في تصوّرهم أزمنةَ التّاريخ بوصفها سلسلةَ قطائع يمحو فيها زمنٌ زمناً، لذلك يبدو لهم المستقبل مستحيلاً من دون طيّ صفحة الماضي. والتّاريخ يعلّمنا أنّه ما من مجتمعٍ صَنَع حاضرَه واجترحَ مستقبله من طرق احتقاره لماضيه. وتلك لعمري بدعة خاصّة بهم.

على أنّ هذا الإسهال في التّشنيع على التّراث وحسبانِه عبئاً ومشكلةً إنّما يترجم اضطراباً فكرياً في الرّؤية إلى قضايا الحاضر والمستقبل. ويتبدّى ذلك في قلبٍ لنظام المهمّات؛ وهكذا بدلاً من الانصراف إلى البحث عن معالجات جديّة لمعضلات الرّاهن، يقع التّوجُّه إلى تحويل الماضي والتّراث إلى عدوٍّ ينبغي تصفيتُه ومحوُه. وهو منزِع هروبي من هذا الفريق يشبه هروب الفريق الأوّل من مشكلات الحاضر واللّياذ بالماضي.