كنت وما أزال من المعجبين بألمانيا، فرغم ما واجهته من حروب وعثرات إلا أنها في كل مرة تنهض أقوى مما كانت، وحيث إنني لا أعتقد أن الجينات هي السبب، فقد بحثت عن الأسباب الحقيقية لهذا التميز في الأداء، وهذا الكم الهائل من العلماء الذين هاجروا إلى دول أوروبا الغربية وأميركا قبل وبعد الحربين العالميتين، بل وكان السباق على أشده بين الاتحاد السوفييتي وأميركا على استقطاب أكبر عدد من العلماء بعد هزيمة ألمانيا واحتلالها في الحرب العالمية الثانية. وجدت أن من أهم أسباب تميز الشعب الألماني جودة التعليم الذي بدأ على يد العالم الألماني كريستيان فيليكس أبو الرياضيات الحديثة، فهو المخطط التربوي والتعليمي لأوروبا في المئة والخمسين سنة الأخيرة، ذلك أنه نادى بتدريس اللغويات والمنطق والفلسفة للطلبة بجانب العلوم، مثل: الفيزياء والكيمياء والرياضيات، حتى يتعلم الطلبة التفكير والبحث والتحليل، كما نادى بتوحيد المناهج الدراسية بين البنين والبنات، حتى يستطيع المجتمع أن يستفيد من كل قدرات أبنائه الإبداعية بدل السير على قدم واحدة، الساق الذكورية. سبح ضد التيار ونادى بتعديل مفهومين متأصلين في نظام التعليم في ذلك الوقت، إضافة إلى مطالبته بأن تنفق الدول جزءاً من دخلها القومي على التعليم ما بعد الجامعي.

هذا البرنامج الطموح ينسب له الفضل في بروز 60 % من مجموع العلماء الأوروبيين في مختلف أفرع المعرفة، والذي أطلق عليه برنامج جوتينجن نسبة إلى جامعة "جوتينجن" الذي سمي باسمها، وكان كريستيان أحد أبرز أساتذتها، حيث تم تكليفه بتنفيذ البرنامج بدعم من وزير التعليم والثقافة "فريتز ألنتوف" وتم تطبيقه بصورة كلية في كل من ألمانيا والنمسا وبعض دول أوروبا الوسطى.

أما السبب الثاني الذي كان له الفضل في قوة ألمانيا في كل المجالات، فهو القيادة التي اهتمت ببناء العنصر البشري، وقد تولى "كونراد أديناور" إعادة بناء ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية حيث تقلد منصب المستشارية الألمانية (رئاسة الوزراء) بين عامي 1949 و1963 حيث أثبتت القيادة الواعية، والشعب المتعلم والمنضبط والمنخرط في بوتقة العمل الجماعي أنها أهم من المال، وأنها الكفيلة بحل جميع التحديات.

كان من أهم مبادئ كونراد أديناور الاقتصادي، إعادة ترتيب الأولويات في المجتمع، فلم تكن الرفاهية والاستهلاك في المقدمة، بل الإنتاج والتصدير، وزيادة ساعات العمل المنتجة وليس الحضور والتوقيع والانصراف فقط. كما تم دعم النظام الاجتماعي ومكافحة الفقر والتعليم والصحة، دون البكاء على الماضي وما به من دمار وأخطاء ذهبت مع النظام النازي ومغامراته، تم القضاء على الانقسامات الداخلية والأحقاد التي تأكل كل جميل في المجتمع.

قدم هذا القائد الفذ استقالته حين طلب منه الحزب ذلك بعد أن بلغ السابعة والثمانين من عمره.

واليوم حين أنظر للعالم العربي أجد أن السعودية مهيئة لأن تصبح ألمانيا الشرق الأوسط بالتركيز على أهم مقومات التقدم، وهي:

أولاً؛ التعليم قاطرة كل تقدم، وكل دولة ترغب في المنافسة على المستوى الدولي، واحتلال المكانة اللائقة بها، لا غنى لها عن تطوير التعليم بكل مراحله. وأهم خطوات تطويره هو الأخذ بما أخذت به الدول المتقدمة، فلا حاجة لنا لإعادة اختراع العجلة، والتعليم في كل دولة بحاجة إلى تطوير مستمر للمناهج، وللكادر التعليمي بصفة خاصة، وتقديره ورفع روحه المعنوية، وتطعيمه بالكفاءات المميزة من داخل الوطن وخارجه. واختيار الشخصية القيادية لقائد المدرسة، وبناء شخصية الطالب، وتعزيز القدرة على التفكير الإبداعي، بدءاً بالمراحل الأولى للتعليم، وتزويده بالمهارات المطلوبة للحاضر والمستقبل. وتشجيع البحث العلمي ومواصلة الابتعاث إلى أفضل الجامعات كما هو اليوم، مع تمكينهم بعد العودة من ابتعاثهم للعمل بما ابتعثوا له، دون إشغالهم بالأعمال الروتينية التي تصرف المختص عن تخصصه الأساس.

ثانياً؛ لدى المملكة القيادة الطموحة التي جمعت بين التجربة والشجاعة في اتخاذ القرار، قيادة وضعت العنصر البشري وتطويره في مقدمة أولوياتها، وساوت بين المرأة والرجل في التعليم والتوظيف وفي الحقوق والواجبات، وحدثت نظام الضمان الاجتماعي، لتكون مهمته مكافحة الفقر أساس أمراض المجتمع. وتعمل على تنويع مصادر الدخل وضمان استدامته، وكافحت الفساد وأعادت هيكلة الكثير من الوزارات والهيئات، وضخت بها الدماء الشابة لتكون أكثر فاعلية وإنتاجية، القيادة هي أهم عناصر تقدم الأمم.

وجود دولة محورية قوية في منطقتنا العربية تكون قدوة وسنداً، كما هي ألمانيا في أوروبا اليوم، سيشحذ الهمم ويشعل المنافسة، والمملكة بقيادتها وشعبها المتعلم خير من يقوم بهذه المهمة السامية.