كان يوم 14 ربيع الثاني عام 1377 للهجرة الموافق للسادس من نوفمبر 1957 يومًا مشهودًا في تاريخ الخليج والجزيرة العربية بصفة عامة وتاريخ المملكة العربية السعودية بصفة خاصة. ففيه أصدر المغفور له الملك سعود بن عبدالعزيز رحمه الله مرسوما ملكيا جاء فيه: «بعونه تعالى نحن سعود بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية رغبةً في نشر المعارف وترقيتها في مملكتنا، وتوسيع الدراسة العلمية والأدبية وحبًا في مسايرة الأمم في العلوم والفنون، ومشاركتها في الكشف والاختراع وحرصًا على إحياء الحضارة الإسلامية والإبانة عن محاسنها ومفاخرها وطموحها في تربية النشء تربية صالحة تكفل لهم العقل السليم والخلق القويم، المادة الأولى: تنشأ في مملكتنا جامعة تسمى جامعة الملك سعود».

تلا ذلك البحث عن شخصية مرموقة تتولى رئاسة الجامعة الفتية وتقودها نحو أهدافها النبيلة، فوقع الاختيار على العالم الموسوعي الأديب والفيلسوف الدكتور عبدالوهاب عزام، وكان وقتها أحد أساطير الفكر والأدب والترجمة والدبلوماسية والإدارة العرب، فتمّ استدعاؤه من وطنه مصر وقيل له إن الدولة السعودية وضعت ثقتها فيكم لتولي قيادة الجامعة، فقبل الرجل التحدي وباشر مهامه متكلاً على الله ثم دعم الملك وحكومته.

ومذاك خطت الجامعة خطوات كبيرة نحو الأمام فزاد عدد كلياتها، وتوسعت منشآتها وارتفعت أعداد طلبتها وكوادرها الحكومية، حتى صارت أكبر جامعة في العالم من حيث المساحة وباتت اليوم ضمن الجامعات المهمة على الصعيدين العربي والإقليمي، بل صارت تحصد المراكز المتقدمة في القائمة السنوية لأفضل جامعات الشرق الأوسط.

تعاقب على رئاسة الجامعة منذ تأسيسها تحت اسم «جامعة الملك سعود» (تغير اسمها إلى جامعة الرياض لمدة عشر سنوات قبل استعادتها لاسمها الأصلي زمن المغفور له الملك خالد بن عبدالعزيز) عدد من الشخصيات الأكاديمية المرموقة، كان عزام هو الوحيد بينهم من خارج المملكة. وتشير قائمة الذين ترأسوا الجامعة إلى الأسماء الآتية: عبدالوهاب محمد عزام (من 1957 إلى 1959)، ناصر بن حمد المنقور (من 1959 إلى 1960)، د. عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر (من 1962 1972)، د. عبدالعزيز بن عبدالله الفدا (1972 إلى 1979)، د. منصور بن ابراهيم التركي (من1979 إلى 1990)، د. أحمد بن محمد الضبيب (من 1990 إلى 1996)، د. عبدالله بن محمد الفيصل (من 1996 إلى 2007)، د. عبدالله بن عبدالرحمن العثمان (من 2007 إلى 2012)، د. بدران بن عبدالرحمن العمر (من 2012 حتى الآن).

ولد عبدالوهاب محمد حسن سالم عزام في قرية الشوبك الغربي التابعة لمركز البدرشين بمحافظة الجيزة المصرية في الأول من يناير 1894، ونشأ في كنف أسرة ذات تاريخ طويل ودور كبير في الفكر والسياسة ومقاومة المحتل البريطاني. فوالده الشيخ محمد حسن بك عزام مثلاً كان عضوًا في مجلس شورى القوانين زمن الخديوي توفيق، ثم الجمعية التشريعية زمن الخديوي عباس حلمي الثاني، ثم انتخب نائبًا في أول مجلس نيابي بعد صدور دستور 1923 زمن الملك فؤاد. وجده لأبيه هو الشيخ سالم بك عزام الذي كان ناظرًا للجيزة، ونفي في عهد الاحتلال البريطاني لمصر إلى السودان، حيث توفي ودفن بمدينة الخرطوم. وعمه هو الشيخ حسن بك عزام من أعيان الجيزة وكان عضوًا في جمعية شورى القوانين. وابن عمه هو عبدالرحمن عزام باشا الملقب بـ«غيفارا العرب» (لمشاركاته في حروب البلقان وقتاله إلى جانب السنوسيين ضد الغزو الايطالي لليبيا، ناهيك عن مشاركته في أعمال المقاومة ضد الإنجليز في مصر)، وأول أمين عام لجامعة الدول العربية وقت تأسيسها في مارس 1945، ومن بعد ذلك عمل مستشارًا لدى الدولة السعودية.

درس عبدالوهاب عزام القرآن الكريم وحفظه في الكتاتيب التقليدية، إذ كان والده حريصًا على التعليم الديني بدليل أنه أرسله حينا شبّ وكبر للدراسة بمدرسة القضاء الشرعي التابعة للأزهر الشريف والتي تخرج منها عام 1920. ولأنه كان أول الخريجين وأكثرهم تفوقًا، تمّ تعيينه مدرسًا بمدرسة القضاء الشرعي. شغفه الكبير بالعلوم والمعارف قاده إلى الجامعة المصرية التي درس فيها الآداب والفلسفة، وتخرج منها عام 1923 حاملا ليسانس الآداب. وقتها كان البحث جاريًا عن شخصية يتم إرسالها إلى بريطانيا ليعمل إماما بالسفارة المصرية في لندن ومستشارًا دينيًا لها، فوقع الاختيار عليه.

وهكذا سافر الرجل إلى بريطانيا في العقد الثاني من القرن العشرين في أولى رحلاته الخارجية، وهناك اطلع على ما كان يـُكتب عن الإسلام والعالم الإسلامي من قبل المستشرقين الأجانب، فقرر أن يدرس اللغات الشرقية الإسلامية. ولهذا إلتحق بمدرسة اللغات الشرقية التابعة لجامعة لندن وحصل منها على درجة الماجستير في الأدب الفارسي عام 1927 عن أطروحة بعنوان «التصوف عند الشاعر الفارسي فريد الدين العطار».

عاد عزام إلى القاهرة بعد ذلك فعين مدرسًا بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وإبان توليه التدريس قرر أن ينال درجة الدكتوراه التي حصل عليها بالفعل في عام 1932 من جامعة القاهرة (فؤاد الأول آنذاك) عن أطروحة حول «شاهنامة الفردوسي في الأدب الفارسي». وبحصوله على هذه الدرجة الجامعية راح يرتقي درجات السلم الأكاديمي. فمن مدرس للغات الشرقية بكلية الآداب إلى استاذ عام 1939، فإلى رئيس لقسم اللغة العربية واللغات الشرقية، وصولاً إلى عام 1945 الذي تولى فيه عمادة كلية الآداب.

في عام 1947 بدأ عزام رحلة العمل في السلك الدبلوماسي التي قادته للعمل أولاً وزيرًا مفوضًا للمملكة المصرية لدى المملكة العربية السعودية بدءًا من عام 1948، ثم تم نقله للعمل في السفارة المصرية في كراتشي الباكستانية. وفي عام 1954 قرر الرئيس عبدالناصر إعادته إلى السعودية سفيرًا مقيمًا لمصر بجدة وغير مقيم في صنعاء. وفي أثناء توليه مهمة تمثيل بلاده لدى السعودية واليمن حان موعد تقاعده عن العمل الدبلوماسي، لكن الخارجية المصرية بأمر من عبدالناصر مددت له فترة خدمته ليتقاعد رسميًا في عام 1956م.

وهنا، وبينما كان منصرفا بعد تقاعده إلى تثقيف مواطنيه المصريين بأمور دينهم ودنياهم من خلال مسجد بناه في ضاحية حلوان، رأت السعودية أن تستدعيه وتوكل إليه مهمة قيادة جامعتها الوليدة لما وجدت فيه من علم واسع وخبرة إدارية، وحنكة دبلوماسية، ناهيك عن اطلاعه على ظروف وأحوال المملكة وامتلاكه لشبكة من العلاقات الاجتماعية والثقافية كونها من سنوات عمله الدبلوماسي في السعودية، فكان نعم الاختيار والقرار.

وفي يوم افتتاح الجامعة، وبحضور الملك سعود وأصحاب السمو الملكي الأمراء وأصحاب الفضيلة العلماء ورجالات الدولة والأعيان، ألقى عزام كلمة تحدث فيها بما أوتي من فصاحة وبلاغة عن العلم في الإسلام ومكانة العلماء وتاريخ العلم ومراحله في الحضارة الإسلامية، وكيف وصلت إلينا العلوم الشرعية والأدبية والتطبيقية، ثم أردف قائلاً: «وهذه الجامعة تكميلاً للمساعي العلمية والعمرانية في هذه المملكة المباركة وقصدًا إلى بلوغ الدرجة العالية في العلم والتعليم وإلى التوسع في كل علم وفن لنبلغ المستوى الذي يكافئ مكانتنا بين الأمم ويلائم تاريخنا»، ثم استطرد متحدثا عن غايات وأهداف الجامعة فقال: «لقد أنشأت الجامعة لنهدي الناشئة إلى الصراط السوي وتحميها من التقليد والافتتان بما في الغرب من مذاهب ومقالات، وتميّز لها الحق من الباطل وتبيّن الرشد من الغي؛ فنبلغ بها في العلوم أبعد غاية، ونأخذ لها أحسن ما بلغته الأمم في الفنون والصناعات، ثم تحفظ عليها دينها وأخلاقها ومروءتها وسائر ما هدى إليه الإسلام، من خلق كريم وعمل صالح وما ورثنا من العرب من عزة وكرامة وقوة ومروءة ونجدة وسخاء».

على أن الأقدار لم تسمح لعزام بالبقاء في منصبه أكثر من 14 شهرًا تقريبًا. إذ انتقل إلى جوار ربه في السادس من يناير عام 1959، بمنزله في الرياض على إثر سكتة قلبية، لينقل جثمانه إلى بلاده ويدفن في مسجد عائلته بحلوان. وعلى إثر وفاته نعاه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله بصفته وزيرا للمعارف آنذاك من خلال بيان قال فيه: «إن خسارتنا بفقد العلامة الدكتور عبدالوهاب عزان رئيس جامعتنا الأول لأفدح من خسارة آل عزام فيه، وأفدح من خسارة وطنه مصر، ونحن فجعنا به، ولا حول ولا قوة إلا بالله».

وهكذا ترجل الفارس والعلامة المصري الذي حلق في سماوات العملين الأكاديمي والدبلوماسي، واكتسب مهارات التحدث بخمس لغات (الانجليزية والفرنسية والفارسية والأوردية والتركية)، وانتدب مرتين للعمل بجامعة بغداد، وكان عضوًا بالمجلس الأعلى لدار الكتب بالقاهرة، وحظي بعضوية المجامع العلمية في مصر وسورية والعراق ومصر وايران، ونال التكريم من الحكومة الإيرانية بمنحه النيشان العلمي عام 1935، ومن الحكومة اللبنانية بتقليده وسام الأرز الوطني سنة 1947.

ترك عزام خلفه العديد من المؤلفات ومنها: «مدخل إلى الشهنامة العربية للبنداري» (كتاب من مجلدين أصدره في عام 1932 وحقق من خلاله ترجمة الفتح بن علي البنداري لملحمة الشاهنامة للفردوسي من الفارسية إلى العربية، «التصوف في الشعر الإسلامي» (1933)، «مهد العرب» (كتاب أصدره في عام 1936 عن أصل العرب ومآثرها ومقدساتها وخصوبة أرضها وطباع أهلها وأدبهم وأخلاقهم وأشعارهم وذكائهم وأيامهم)، «ذكرى أبي الطيب المتنبي بعد ألف عام» (1936)، «نواح مجيدة من الثقافة الإسلامية» (1938)، «الرحلات» (1939)، «ديوان المتنبي» (1944)، «مجالس السلطان الغوري» (1944)، «التصوف وفريد الدين العطار» (1945)، «الأدب الفارسي» (1948)، «موقع عكاظ» (1950)، «الأوابد» (كتاب أصدره عام 1950 محتويًا على مجموعة من المقالات والدراسات الأدبية واللغوية ومنظومات من الشعر المتنوعة مستوحاة من العقيدة الدينية والروحية والإسلامية كتبها بأسلوب بلاغي رائع وبروح متأصلة)، «الشوارد أو خطرات عام في كراتشي» (1953)، «النفحات» (كتاب ألفه عام 1953 متضمنًا خواطر شعرية ونثرية كتبها في ثلاثة مواسم رمضانية إبان عمله في باكستان)، «محمد إقبال: سيرته وفلسفته وشعره» (1954)، «المثاني» (1955)، «ديوان الأسرار والرموز: محمد إقبال» (1956)، «المعتمد بن عباد» (كتاب أصدره في عام 1959 عن سيرة الملك الجواد والشاعر الأندلسي الشجاع). إلى ذلك قام بترجمة ثلاثة كتب عن الفارسية هي: «فصول من المثنوي» (أصدره في عام 1948 عما يعرف في الشعر الفارسي بالمثنوي وهو شكل من أشكال الشعر اختص به الفرس ويقوم على قافية مزدوجة أو ثنائية في البيت الشعري الواحد)، «بيام مشرق (رسالة الشرق) لشاعر الهند وباكستان محمد إقبال» وأصدره في عام 1951، وكتاب «جهار مقاله» (المقالات الأربع) للنظامي العروضي السمرقندي. كما ترجم من الأوردية إلى العربية في عام 1952 ديوان محمد إقبال الموسوم «ضرب الكليم»، وكتب بحوثًا نشرها في مجلة «المجمع» الصادرة عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة منها: بحث بعنوان «الألفاظ الفارسية والتركية في العامية المصرية»، وبحث آخر بعنوان «الفارسية في كتاب سيبويه»، علاوة على سلسلة مقالات كتبها لمجلة الرسالة بعنوان «أمم حائرة» تناول فيها الأسرة والمدرسة والمرأة والعدل والحضارة الغربية وغيرها ومن العناوين السابقة يتبين أن عزام كان رائدًا للدراسات الفارسية، وباحثًا ومفكرًا قدم للمكتبة العربية ولميادين العلم والمعرفة والثقافة طائفة متنوعة من الأبحاث في الأدب والتاريخ والتصوف تميزت جميعها بالعمق. والحقيقة أنه لاغرابة في ذلك فالرجل كان مطلعًا بعمق على الثقافة العربية والإسلامية، خصوصًا مع إجادته للغات الأوروبية والشرقية. ومما قيل عن جهوده وإسهاماته الأخرى إنه كان من حماة وسدنة التراث العربي وعمل على إفشال وصد محاولات القاضي والسياسي والوزير المصري عبدالعزيز باشا فهمي (1870-1951) داخل مجمع اللغة العربية بالقاهرة لاستبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية بحجة تسهيل القراءة والنطق. هذا ناهيك عن عمله الدؤوب في سبيل توثيق أواصر العلاقات والروابط بين الأمة العربية والعالم الإسلامي.

كتب عنه وعن أخلاقه وخصاله الأديب والشاعر والمؤرخ المصري محمد رجب بيومي في موسوعته «النهضة الإسلامية في سير أعلامها» فقال: «لقد كان عبدالوهاب عزام مكافحًا أي مكافح، لم يتشدق بالثقافة والمنصب وأعلى الدرجات العلمية وأخصب المؤلفات الفكرية التي توّجت نضاله، ولكن خُلق الإسلام قد أكسبه تواضع الزاهدين وهدوء الباحثين، ولو شاء لضج وصخب ولأعانته ثقافته المتنوعة على أن يجهر بنبوغه فيعلن عن نفسه في تكبر واستعلاء، ولكن عزامًا قد درس وتعلم لتكون دراسته الخصيبة المتعددة الأفنان تربية سلوكية تدعو إلى الخطة المثلى في دنيا الخلق كما كانت مشعة تمزق الحوالك في دنيا الظلمات».

كما كتب فاروق صالح باسلامة في صحيفة الرياض السعودية (11/‏‏4/‏‏2015) عن كتاباته فقال: «على الرغم من الروحانيات في كتب عبدالوهاب عزام إلا أن الأدب فيها رائع البيان، وماتع الأسلوب، فالمؤلف أديب كبير، ومثقف فلسفي وذو فكر عميق وله شعر - كما يقول خير الدين الزركلي في ترجمته (الأعلام) - وشعر عبدالوهاب عزام يرقى على الجودة، لأن عادة الزركلي حينما يترجم لأديب إذا كان شاعرًا يقول إن له شعرًا، وأما إذا كان منظومًا يقول عنه أنه ناظم أو أن له نظمًا كما فعل مع الأستاذ كامل الشناوي ومع غيره الذين يصفهم بأنهم نظامون»، مضيفًا: «وفي فن الشعر والتعبير، كان عزام مسهمًا بالأداء العملي والعلمي والأدبي والثقافي بكل كثافة معنوية غزيرة، مما جعله علمًا من الأعلام، يعمل ويشتغل بكل هدوء ويكد بصمت لأن العمل العلمي عنده يتطلب الحركة العملية لا الأقوال الهشة، وخلال تنقله في البلدان والأوطان العربية والبعيدة جمع مذكرات حول رحلاته في جزأين مفيدًا بالملحوظات والصور المرئية والأفكار العلمية والمعرفية والتاريخية التي قيدها ورصدها وسجلها فكانت رحلات عالمية رائعة».

وعن دوره في جامعة الملك سعود كتب المؤرخ السعودي الشيخ عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ في ترجمته لعزام قائلاً ما مفاده إنه منذ إنشاء الجامعة دأب الرجل على تنظيم موسم ثقافي عام، يلقى فيه الأساتذة محاضرات ثقافية عامة، وكان هو نفسه رحمه الله لا يكتفي بحديث واحد في الموسم وإنما كان يتحدث مرتين أو ثلاثًا أو أكثر.