يقدم الدكتور محمد أركون في كتابه [تاريخية الفكر العربي الإسلامي] قراءة منفتحة للفكر العربي الإسلامي مؤسسة على الحداثة والمعرفة العلمية.

فكتاب [تاريخية الفكر العربي الإسلامي] يعد في الأوساط الفكرية كتابًا فكريًا ذاع صيته واشتهرت طبعته الإنجليزية في الغرب -بغض النظر عن قيمة محتواه- ولاقى تأثيرًا وإعجاباً ورواجًا وانتشارًا واسعًا. فمن خلال هذا الكتاب يبدو لنا فكر الدكتور محمد أركون.

وإن كنا نلمس في هذا الكتاب تراوح الدكتور محمد أركون ما بين مقتضيات الموضوعية وجاذبية النموذج الغربي في التفكير، ففي بعض أطروحاته يضحي بمقتضيات الموضوعية لمصلحة قناعاته الشخصية اللائكية.

فهو يقترح في كتابه [تاريخية الفكر العربي الإسلامي] قراءة الفكر الإسلامي في ضوء المعارف العصرية السائدة في الغرب في محاولة منه لتفسير الفكر الإسلامي تفسيرًا حديثًا يطابق ما وصلت إليه المدنية والمعلومات والمعارف الحديثة، واضعاً هذا المشروع الفكري نصب عينيه على مدى ثلاثين عاماً قراءةً ورصدًا ودراسةً وتحليلًا.

ففي كتاب ظهر له في تلك الفترة، [قضايا في نقد العقل الديني.. كيف نفهم الإسلام اليوم] والذي ترجع أفكاره الى كتاب [نقد العقل الخالص] للمفكر إيمانويل كانط كما ظهر له كتاب آخر [الفكر الإسلامي] والذي يحاول من خلاله طرح رؤية جديدة للفكر الإسلامي يلائم فيها ما بين الفكر الإسلامي والعصر الحديث محاولًا أن يقدم قراءة جديدة للفكر الإسلامي في قالب عصري.

وهكذا نلمح عند الدكتور محمد أركون ملامح المنهج الحديث في التفكير ولكن يظل كتاب [تاريخية الفكر العربي الإسلامي] أهم المؤلفات التي اضطلع بها في حياته الفكرية والذي أراد أن يثبت من خلاله العلاقة ما بين الفكر الديني ومقتضيات العصر.

وإن كنا نجده في مشروعه الفكري [الإسلاميات التطبيقية] والذي يدرس فيه الفكر العربي الإسلامي من خلال العلوم الإنسانية أو من خلال دراسات علم الاجتماع الحديث.

وهو المشروع الفكري الذي أطلقه في عشرينيات القرن العشرين والذي وجد بعض التحفظات من بعض الأوساط الفكرية والاستشراقية.

وإن كانت فكرة المشروع [التطبيقات الإسلامية] مستلهمة أو مقتبسة من كتاب [الأناسة التطبيقية] للمفكر الفرنسي روجيه باستيد ومقلداً في منهجه المفكر ريجي بلاشير في قراءاته للفكر المسيحي ولذلك جاءت قراءاته تتأرجح ما بين الواقع والقوالب الفكرية الجاهزة وما بين مقتضيات الموضوعية وجاذبية النماذج الفكرية.

فنراه يقترح مشروعًا فكرياً حساساً بوسائل الحداثة الفكرية، وفي ضوء المفاهيم والمناهج الجديدة للعلوم الاجتماعية.

يقول الدكتور محمد أركون في معرض تعليقه على العلاقة ما بين الروحي والزمني بأن تداخل السلطة الزمنية بالسلطة الروحية ليس شيئًا خاصًا بالإسلام، وإنما هو إحدى الخصائص الأساسية لكل الفضاء العقلي، فاليهودية والمسيحية قد شهدا الشيء ذاته، وفي موقف آخر يذهب أركون الى أبعد من ذلك عندما يؤكد أن التمييز بين الروحي والزمني لم يتحقق كليًا في يوم من الأيام، وأن تداخلهما لا يزال مستمرًا حتى في بلد ذي تراث علماني عريق كفرنسا.

فأركون يطلع علينا بقراءات مناقضة للنظريات المعروفة فتارة يطرح الفرضية التي تقول إن السلطة على مدار التاريخ الإسلامي كله كانت سلطة زمنية وطورًا يعكس هذا الاتجاه ليقول إنها زمنية صرفة.

ولكن كيف نفسر هذا التعارض؟

هل يعود هذا إلى حيرة فكرية وتردد أمام واقع فكري واضح؟

هذه المشكلة الفكرية لم تظهر في العالم الإسلامي إلا مع القرن العشرين بعد الحرب العالمية الأولى.

إذ لم تعرف التجربة الإسلامية إشكالية الفصل بين الدين والدولة.

لقد ميز الإسلام بين مجال العبادات ومجال المعاملات وبين مجال الإيمان ومجال إدارة الشؤون العامة والعلاقات الإنسانية والتمييز في هذه الحالة لا يعني الفصل بين الدائرتين الدينية والسياسية. فلم تكن السلطة الدينية في الإسلام روحية محضة كما لم تكن السلطة السياسية زمنية محضة لقد كرس الإسلام باستمرار الجمع بين الدين والدنيا، ولكن من دون المماثلة بينهما.

ولذلك فالمجتمعات الإسلامية لم تكن مادة سلبية ولا كان الفكر الإسلامي مجرد صفحة تملؤها النخب الفكرية أو رجال الفلسفة. فالفكر الإسلامي حقق نجاحات في صياغة الحياة الاجتماعية والثقافية للمجتمعات الإسلامية.

لاشك بأن الدكتور أركون تتلمذ على عدة مدارس فكرية فجاء هذا التعارض المنهجي في مشاريعه الفكرية وكانه لم يحسن التصرف في الفكر الذي بين يديه.