كل التوقعات في لبنان تصب في ذهاب البلد إلى الفراغ بعد 31 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل تاريخ انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون. وذلك على الرغم من إشارات المجتمع الدولي إلى ضرورة إنجاز الاستحقاقات اللبنانية، خصوصاً تشكيل الحكومة وانتخاب رئيس جديد من دون نسيان ملف ترسيم الحدود المجمّد حالياً رغم الوساطة الأميركية بقيادة آموس هوكشتاين. ما يعزز التوقعات هو الانسداد السياسي في البلد واستمرار الانهيار، وعدم قدرة عون ورئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي على التفاهم لتشكيل الحكومة، وابتعاد القوى السياسية والطائفية نحو مشاريع خاصة لتحسين مواقعها تستحيل تصعيداً يؤجج الأزمات ويجهض التسوية، فيما تعجز السلطة عن الإنقاذ بسبب سياسات المحاصصة.

لكن العامل الأساسي الذي يمنع استعادة نصاب المؤسسات الدستورية هو ربط مصير لبنان بملفات المنطقة، ويشكل "حزب الله" طليعة القوى التي تحمل مشروعاً له حسابات إقليمية ومرتبط بالمرجعية الإيرانية، وبالتالي يجعل من استحقاق انتخابات الرئاسة ملفاً مرتبطاً بالتطورات في المنطقة وعلى المستوى الدولي، وربطه إلى حد بعيد بالمفاوضات النووية. لذا ليس تفصيلاً أن يصر الحزب على تشكيل الحكومة وإن كانت تفصلنا فترة قصيرة لا تتعدى الشهرين ونصف الشهر عن الانتخابات الرئاسية ويمارس الضغوط على ميقاتي في هذا الاتجاه وكأنه يتبنى موقف رئيس الجمهورية والتيار العوني حول مواصفات التشكيل وطبيعته. لكن موقف "حزب الله" يبدو أنه يتعلق باحتمالات الدخول في الفراغ أو بقاء رئيس الجمهورية في قصر بعبدا ما لم تتشكل الحكومة التي لا تستطيع فعل شيء في الفترة الفاصلة عن استحقاق الرئاسة لكنها ستكون مقررة بعد انتهاء الولاية الرئاسية من دون انتخاب رئيس، تماماً كما حدث في عام 2014 حين انتهت ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان وتسلمت حكومة الرئيس تمام سلام الصلاحيات لمدة سنتين حتى 2016 تاريخ انتخاب ميشال عون.

حتى الآن لا بحث جدياً في انتخاب رئيس للجمهورية، في انتظار كلمة السر الدولية، فالقوى السياسية والطائفية اللبنانية عاجزة عن الاتفاق على تأليف الحكومة، وهي عاجزة عن إنجاز الاستحقاق الدستوري لانتخاب الرئيس، فيما ملف ترسيم الحدود لا يزال معلقاً ولا يبدو أنه سينجز في مرحلة قريبة أي شهر أيلول (سبتمبر) المقبل، الذي يصر عليه "حزب الله" فيما إسرائيل أرجأت العمل في حقل كاريش إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية. كلمة السر الرئاسية ومعها ملفات الترسيم والحكومة باتت مرتبطة إلى حد بعيد بالملف النووي والمفاوضات الجارية بشأنه في فيينا، وهذا أمر يُذكر بالمرحلة التي سبقت انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية في 2016، أي بعد أشهر قليلة من توقيع الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران في 2015. مرّ البلد في ذلك الوقت في حالة فراغ وبقي لمدة سنتين معلقاً على ترشيح ميشال عون كاسم وحيد للرئاسة وهو ما حدث في ظل الأمر الواقع الذي فرضته التطورات وهيمنة "حزب الله" على القرار بعد تدخله في سوريا ودعمه إيرانياً لنصرة النظام السوري.

لا يعني التذكير بمرحلة 2016 أن السيناريو نفسه سيتكرر في 2022، على رغم أن كل التوقعات تشير الى قرب إعلان بنود الاتفاق الجديد في فيينا، الأمر الذي سينعكس على لبنان في ملفات عدة من دون أن تتطابق مع السيناريو السابق. لكن الانعكاسات قد تكون لمصلحة قوى الممانعة و"حزب الله" تحديداً وهو أكثر قوة وقدرة اليوم من السابق على مستوى السلاح والهيمنة وبوجود حليفه ميشال عون في الرئاسة، وهو الذي يتحكم أيضاً بملف ترسيم الحدود كمقرر في مساره. انتظار نتائج مفاوضات فيينا أساس لتحديد ملامح المرحلة اللبنانية الجديدة، لكن أيضاً ملاحظة حجم الانهيار في البلد الذي ينزلق إلى الهاوية يحدد موازين القوى وطبيعة التركيب المقبل وانعكاساتها على آلية الاتفاق على تسوية رئاسية، وحتى الرئيس أيضاً، باعتبار أن التوازنات الحالية لا ترجح شخصية مستقلة، وكذلك القدرة على التئام مجلس النواب لانتخاب الرئيس.

الحدث الأكثر خطورة سيكون بعدم خروج ميشال عون من القصر ما لم تتشكل حكومة تحمل سياسته وقادرة على الحكم في حال عدم انتخاب رئيس جديد. الأجواء السياسية حتى الآن تشير إلى ذلك، فعون لن يخرج من الرئاسة ما لم يضمن القدرة على الاستمرار في الحكم بأشكال مختلفة، خصوصاً مع بقاء الذين يتهمهم بالفساد في مواقعهم وهم وفق رأيه يمثلون المنظومة التي عطلت مشاريع العهد ومنعته من تحقيق إنجازات. وفي حال لم يتمكن من ذلك سيسعى إلى إطلاق تحرك للضغط لمنع عزله سياسياً أو وضع الفرامل أمام صهره رئيس التيار الوطني الحر ومنعه من التأثير في القرار، وإلا سيستمر عون في القصر بحكم الأمر الواقع، وهو ما يدفع "حزب الله" إلى التحرك لتسوية مجموعة من الأمور مع قوى سياسية مختلفة في مقدمها الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط.

في كل الأحوال يبدو أن البلد متجه إلى حالة من الفراغ حتى إذا قرر ميشال عون الخروج من القصر. مجلس النواب اللبناني لن يتمكن من عقد جلسة انتخاب رئيس جديد خلال المهلة الدستورية، أولاً بسبب قدرة تحالفات نيابية سياسية على تعطيل النصاب، وثانياً لعدم تمكن أي محور إن كان من المعارضة أو الممانعة أو ما يسمى بالمحور السيادي على تأمين أصوات 65 نائباً لانتخاب الرئيس، وهذا مرهون بالنصاب أيضاً. أما إذا حصل تطور في الاتفاق النووي وانعكس على المنطقة، فيمكن عندئذ انتخاب اسم لكنه سيكون أقرب كمرشح لـ"حزب الله" وهو ما سيؤدي إلى حركة معارضة رفضاً لرئيس يشبه ميشال عون أو قراره لدى محور الممانعة.

وبما أن البحث لم يصل الى مرحلة حاسمة أو حتى جدية في أسماء المرشحين، فإن أي تسوية خارجية ومن بينها الاتفاق النووي تنعكس داخلياً وتوفر فرصاً للانتخاب إنما وفق موازين القوى التي سترتب في الخارج. لكن فكرة الرئيس القوي قد سقطت مبدئياً أو الأكثر تمثيلاً، بفعل تجربة الرئيس ميشال عون غير الناجحة أو المعطلة بحسب تياره، من دون أن يتم الحسم بما إذا كان البحث المقبل باسم الرئيس سيكون من خلفية مستقلة أو لديه تجارب ناجحة في العمل المالي والاقتصادي أو شخصية معتدلة، إذ يبدو أن موازين القوى لا تسمح بذلك. والمعضلة أن لا أحد قادر حتى الآن على إخراج لبنان من المستنقع إلى حل مستدام؟

هناك الملف الأخير الذي سيكون مؤثراً في الاستحقاقات المقبلة، اي ترسيم الحدود، لكن الوقائع لا تشير إلى أنه سينجز قريباً، وهو ما قد يفتح على احتمالات مواجهة بين "حزب الله" وإسرائيل أو عمليات أمنية، ما يزيد من عمق الأزمة ويؤجل الاستحقاقات...