بعد أيّام قليلة، تمرّ ستة أشهر على الحرب الأوكرانيّة التي افتعلها فلاديمير بوتين. بالنسبة إلى الكثيرين، صارت الحرب أقرب إلى أن تكون منسيّة، على الرغم من كلّ ما خلّفته من دمار. صارت حربا شبه منسيّة علما أن العالم كلّه يعيش في ظلّ تأثيراتها وتسبّبها بأزمتي طاقة ومواد غذائيّة. إذا وضعنا جانبا الحروب البلقانية التي نجمت عن تفكّك يوغوسلافيا في تسعينات القرن الماضي، فإنّ حرب أوكرانيا هي الأولى التي تدور في قلب أوروبا منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانيّة في العام 1945!

كان في حسابات الرئيس الروسي، الذي يتبيّن كلّ يوم أنّه لا يعرف شيئا عن العالم، أن الحرب ستكون خاطفة وأنّ الأوكرانيين سيركعون أمامه. حصل العكس تماما. لم تسقط العاصمة كييف واضطرت القيادة الروسيّة إلى تغيير استراتيجيتها، جذريا، مكتفية باحتلال جزء من أوكرانيا بعدما ضمّت شبه جزيرة القرم في العام 2014.

لم يبق العالم متفرّجا على ما يدور في أوكرانيا. اكتشف بوتين متأخّرا أنّ أوكرانيا ليست سوريا حيث راح يسرح ويمرح ابتداء من خريف العالم 2015، ويقصف المدنيين مع تركيز خاص على المستشفيات والمدارس. كان الهدف الروسي في سوريا واضحا. إلى جانب دعم النظام الأقلّوي المنهار، كان مطلوبا وقتذاك الحؤول دون سقوط الساحل السوري حيث الثقل العلوي. هبّ سلاح الجوّ الروسي لنجدة النظام السوري والميليشيات المذهبيّة التابعة لإيران. في العام 2015، كانت إيران التي بعثت بقاسم سليماني قائد “فيلق القدس”، وقتذاك، إلى موسكو للاستنجاد بها، في حاجة إلى روسيا. في العام 2022 وبسبب حرب أوكرانيا، صارت روسيا في الحضن الإيراني، خصوصا في سوريا حيث باتت كلّ مفاصل السلطة تحت سيطرة “الحرس الثوري”.

لم يدرك فلاديمير بوتين، منذ اللحظة الأولى لشن الهجوم على أوكرانيا في الرابع والعشرين من شباط – فبراير الماضي، معنى افتعال حرب في أوروبا. سيطر كل نوع من الأوهام على الرجل الذي أيقظ الغرائز، ذات الطابع الوطني، عند الروس لمجرّد استعادة شبه جزيرة القرم، وهي في الأصل روسيّة. ليس سرّا أن شبيه جزيرة القرم روسيّة منذ القرن الثامن عشر، لكن الأمين العام للحزب الشيوعي نيكيتا خروتشوف وهبها لأوكرانيا في العام 1964 عندما كانت لا تزال جزءا من الاتحاد السوفياتي.

بوتين لم يدرك الفارق بين أوكرانيا وسوريا حيث مسموح له بقتل العدد الذي يشاء من المواطنين السوريين، في حين أن وجوده في أوروبا يجعل كلّ دولة أوروبيّة تشعر بأنّها صارت مهددة

في وقت بدأت الحرب تتخذ شكلا مختلفا بعد توجيه ضربات أوكرانيّة إلى الجيش الروسي ومستودعاته في شبه جزيرة القرم، ليس ما يشير إلى أن فلاديمير بوتين يستطيع التصالح مع الواقع. لم يترك أمامه سوى باب التصعيد. هذه مشكلة كلّ زعماء الدول الذين لا يعرفون العالم والذين يعتقدون أنّ من السهل لعب دور القوّة العظمى أو الدولة الإقليمية المهيمنة، كما تفعل إيران، بمجرد امتلاك صواريخ ودبابات وقاذفات وراجمات وطائرات.. وسلاح نووي.

ما يصنع دولا عظيمة وراقية هو الاقتصاد المتطور وبرامج التعليم. لا يمكن لدولة مثل روسيا تمتلك ثروات طبيعيّة كبيرة العودة إلى لعب دور الاتحاد السوفياتي في حين أنّ حجم اقتصادها أصغر من حجم الاقتصاد الإيطالي. بكلام أوضح، لا يمتلك فلاديمير بوتين ما يمكن تسميته بالرؤية. لم يدرك الفارق بين أوكرانيا وسوريا حيث مسموح له بقتل العدد الذي يشاء من المواطنين السوريين، في حين أن وجوده في أوروبا يجعل كلّ دولة أوروبيّة تشعر بأنّها صارت مهددة.

كان مسموحا للرئيس الراحل صدّام حسين عمل ما يشاء في داخل العراق وفي حربه مع إيران، لكنّ العالم كلّه وقف في وجهه بمجرّد اجتياح الكويت. ما حصل مع صدّام يتكرّر الآن مع بوتين. لم تعد من ثقة بالرئيس العراقي الراحل الذي اعتقد، وقتذاك، أنّ الإدارة الأميركيّة ستكون مستعدة للتفاوض معه في شأن مستقبل الكويت وأنّه يكفي، من أجل ذلك، أن يبعث برسالة إلى واشنطن فحواها أنّ في استطاعة الأميركيين، بعد الآن، تحديد السعر الذي يريدونه للنفط. لم يكتشف سوى متأخّرا أن ليس مسموحا للعراق التحكم بنفط الكويت وأنّ عليه الاهتمام بشؤونه الداخلية بدل السعي إلى لعب أدوار أكبر من حجمه.

لم تعد من ثقة في فلاديمير بوتين. يؤكّد ذلك انضمام دولتين محايدتين تاريخيا، هما السويد وفنلندا، إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). يرفض الرئيس الروسي فهم هذه الرسالة الأوروبيّة الواضحة التي تعني بين ما تعنيه أنّ ليس في أوروبا من يريد التعاطي معه بعد الآن. نجح في إدخال بلده في حرب طويلة يصعب التكهّن بما ستخلّفه من مصائب على الصعيد العالمي وفي أوروبا نفسها.

يبقى أخطر ما في الأمر أن الحرب الأوكرانيّة تدور فيما لا وجود لقيادات سياسيّة ذات ثقل في هذا العالم. لا وجود في الوقت الحاضر لأيّ زعيم أوروبي لديه وزنه في بلده أو في القارة العجوز أو في العالم. هناك حال ضياع في أكثر من دولة أوروبيّة. تكفي متابعة حال الفراغ التي تعاني منها بريطانيا للتثبّت من هذا الأمر…

يعكس ذلك الحذر الذي يتعاطى فيه الأوربيون وأهل الخليج، خصوصا، مع الإدارة الأميركيّة الساعية إلى عقد صفقة مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. حسنا، مفهومة تماما الحماسة الأوروبيّة إلى مثل هذه الصفقة الأميركيّة – الإيرانيّة في ظلّ حاجة أوروبا إلى الغاز الإيراني، لكن السؤال هل تسير إدارة جو بايدن إلى النهاية مع ايران من دون ضمانات في شأن سلوكها خارج حدودها وما تفعله ميليشياتها المذهبيّة في غير دولة من دول المنطقة، وفي مقدمتها العراق وسوريا ولبنان واليمن؟

عندما وقف العالم موقف المتفرّج من التدخل الروسي في سوريا، قبل سبع سنوات من الآن، كان على هذا العالم توقع ذهاب فلاديمير بوتين إلى أوكرانيا بحجة إصرار رئيسها فولوديمير زيلينسكي على انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. هل يستحقّ ذلك ردّا من نوع شن حرب روسية كشفت أوّل ما كشفت أن أوروبا ذاهبة إلى المجهول فيما روسيا نفسها ستبقى في أزمة عميقة مع نفسها ما دام فلاديمير بوتين في الكرملين؟