يتجه لبنان إلى فراغ رئاسي مع انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال عون في نهاية شهر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. إذا لم تحدث مفاجأة أو معجزة، فلن يستطيع المجلس النيابي انتخاب رئيس جديد للبلاد، وسيدخل لبنان في أزمة إضافية تضاف إلى سلسلة الأزمات المتفاقمة التي ضربت اللبنانيين منذ ثلاث سنوات ولا تزال تنهش لحمهم وتمص دمهم وتطحن عظامهم.


يبدو اللبنانيون غير مهتمين بمعرفة من سيسكن قصر بعبدا، بعد أن يغادره الرئيس الحالي (إذا غادره)، ليس لأنهم لا يهتمون بالسياسة، فكلهم متابعون لها ومدمنون عليها، ويكادون يصبحون محللين سياسيين واقتصاديين واستراتيجيين! يتساءلون في ما بينهم ويطرحون أسماء من هنا وهناك، ويتحدث بعضهم بثقة عن هذا المرشح أو ذاك. لكنهم في العمق غير مبالين. غير مبالين لأنهم يعرفون أن لا شيء سيتغير، لا شيء على الإطلاق، أياً كان اسم صاحب الفخامة الجديد.

بعد أسبوع يدخل المجلس النيابي في دورة انتخابية لانتخاب رئيس جديد، ولا أحد في لبنان يصدق أنه سينتخب الرئيس العتيد. الجو السائد في الأوساط السياسية والشعبية أن لا رئيس في موعده، لم تنضج الطبخة التي يوقد ألف طباخ النار تحت طنجرتها. ليس من عادة اللبنانيين أن ينتخبوا رئيساً في موعده، إلا في حالات نادرة، وليس كل رئيس يمهّد لانتخاب خلفه، عقدة التمديد لا تفارق الرؤساء، يتعلقون بالكرسي وحياة القصر والفخامة، إنها لعنة القصر والكرسي والحاشية.

لم يتغير شيء منذ أزمة التمديد لإميل لحود وما جرّه من ويلات، ثم الفراغ الذي تركه في قصر بعبدا من 23/11/2007 إلى 25/5/2008 تاريخ انتخاب ميشال سليمان بعد تسوية إقليمية دولية في الدوحة، والذي بدوره غادر قصر بعبدا بعد انتهاء ولايته في تشرين الأول (أكتوبر) 2014 تاركاً القصر في ظلام نحو ثلاثين شهراً بعد رفع "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" شعار "عون أو لا أحد". وبالفعل حل عون في القصر الجمهوري في تشرين الأول من عام 2016، بعدما تخطى الثمانين من عمره محققاً حلمه التاريخي، وذلك بعد تسوية انزلق إليها الرئيس سعد الحريري، وزيّنها له بعض أقاربه ومحيطه، مع جبران باسيل الذي سرعان ما تنصّل منها بعد عملية محاصصة فاحت رائحتها في حينها.

لم يتغير شيء في التركيبة السياسية اللبنانية، عشرة أو 15 نائباً يُسمَّون تغييريين لا يغيّرون شيئاً في المشهد العام، خصوصاً أن معظمهم ما زالوا هواة سياسة ولا يستقرون على رأي ولا تجمعهم عقيدة أو حتى رؤية موحدة. ما زال "حزب الله" صاحب القول الفصل مهما ادّعى المدّعون ونفخ الصغار صدورهم. وما زال نبيه بري ووليد جنبلاط وجبران باسيل لاعبين أساسيين وفاعلين، فيما ينكفئ سمير جعجع مفضلاً الابتعاد على الخسارة، على قاعدة تحميل مسؤولية الخراب للآخرين عبر عدم المشاركة.

كل شيء على حاله، العقلية نفسها تحكم البلد، الأسماء المتداولة بعضها جدي وبعضها للحرق، وبينها دائماً قائد الجيش، هكذا يحصل دائماً، ثلاثة عهود مضت أتى الرؤساء فيها من قيادة الجيش، وإن كان عون قد انتقل منذ زمن طويل من حالة العسكر إلى الحالة المدنية من دون أن يغادر عقل العسكر أبداً.

تسير السياسة في لبنان على خط واحد لا يتغير ولا يتطور. كأن شيئاً لم يحدث في المحيط وفي الداخل. كأن لا ثورة قامت وأجهضت، ولا شعب خسر كل أمواله ومدّخراته، ولا جوع على الأبواب، ولا برد يقضّ المهاجع، ولا أزمة خبز وبنزين ومازوت وماء وكهرباء وطبابة وتعليم وحرب على الأبواب.

لا سياسة في لبنان، البلد ضيّق على السياسيين، الإقليم أوسع، والعالم أرحب بكثير. لا سياسيين أيضاً بالمعنى العلمي لكلمة سياسة بما هي تدبّر حكم البلد بناسه وثرواته ومستقبله ومنعته ودوره ورسالته. السياسة في لبنان تقوقع طائفي واستقطاب مذهبي ونكايات ومؤامرات وتقاسم للمنافع. لا أحد يتنازل لئلا يُستضعف ويصبح خارج المعادلة كما حل بسعد الحريري، الذي ربما يكون قد نجا من السقوط الأخير للبلد.

إنه العجز بكل أوصافه والعقم المتأصل عن المبادرة واجتراح الحلول والتسويات. والسؤال الذي لا بد منه هو ما كان يردده وليد جنبلاط: لبنان إلى أين؟
فعلاً لبنان إلى أين؟