الشتاء في أوروبا ليس مثل الشتاء في أي بقعة أخرى من الأرض. للشتاء في الغرب دلالات كثيرة ومؤثرة بلاغيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.

تحدثنا سابقا عن الشتاء ولياليه الطويلة المكفهرة كمفردة ودلالة خطابية وكيف أن الناس لا تستسيغ الشتاء ولا لياليه ولا تستحسن أي تشبيه أو كناية به. بيد أن الشتاء الذي ينتظره الناس هنا بصبر تشوبه الخشية والخوف، حيث صار له بعد ووقع بحكم الحرب الدائرة في أوروبا التي ساحتها الأراضي الأوكرانية، بينما ميدانها أوسع لتحولها إلى صراع مرير ودموي بين معسكرين تقودهما قوتان عظميان هما الولايات المتحدة من جهة وروسيا من جهة أخرى.
وأغلب حلفاء الولايات المتحدة من الدول الأوروبية الغربية ـ هذه الدول أصبحت تعاني الأمرين لاعتمادها الكبير على تلبية احتياجاتها من الطاقة على روسيا.
هذه الدول بالذات تشهد صعودا ملحوظا في الأسعار من المواد الغذائية الأساسية إلى أسعار الوقود والكهرباء وأصبحت تعاني التضخم وانخفاض قيمة العملة وتدني القوة الشرائية للمواطنين خصوصا أصحاب الدخل المحدود.
والغربيون مولعون بالاستبانات والسيناريوهات المحتملة التي قد تصح أو قد لا تصيب، إلا أنها تترك بصمات واضحة، لأن نتائجها تتلقفها الصحافة ويتداولها الإعلام، وحال نشرها تؤثر في الناس ومزاجهم ومواقفهم كثيرا.
وأحدث الاستبانات تظهر أن الناس بصورة عامة، وخصوصا، في دول مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وغيرها غير مرتاحة وتئن تحت وطأة التضخم والأسعار المرتفعة وأنها تبدي رغبة شديدة في مقارعة الحكومات إن لم تتمكن من كبح جماح الأسعار وتهدئة المشاعر الغاضبة.
لكن ما جذب انتباهي وأنا أطالع التقارير حول هذه الاستبانات أن أقل أناس تذمرا من الصعوبات الاقتصادية التي سترافق الشتاء المقبل هم الفرنسيون، مع ذلك فإن التوقعات تقول إن الفرنسيين سيصبون جام غضبهم على حكومتهم في الشتاء ليس من خلال المظاهرات السلمية وحسب، بل قد يلجأ الناس إلى إثارة الاضطرابات والعنف. وأخذت التقارير تتوالى ومعها سيناريوهات لما قد تكون عليه الأوضاع في الشتاء. وما شدني كان تقرير في جريدة "الجارديان" البريطانية التي قارن كاتب عمود شهير فيها بين البريطانيين والفرنسيين وماذا يمكن أن يقوموا به إن ضاقت بهم سبل العيش من جراء ارتفاع الأسعار.
ومن الغرابة أن التقرير رأى أن الفرنسيين أكثر تشبثا بحقوقهم وأكثر حنكة ودراية في التجمهر وتنظيم المسيرات والمظاهرات واستخدام الشغب لفرض إرادتهم على حكوماتهم أو إجبارها على التراجع أو حتى الاستقالة.
ويحث التقرير البريطانيين، الذين يعانون حاليا أكثر من الفرنسيين، حسب الاستبانات، على عدم الركون والسكوت على الظلم الذي يلحق بهم وسببه الحكومة التي تقودهم. والتقرير يذهب بعيدا إلى حد قد يجعل المرء يرى بين الأسطر أن هناك دعوة إلى اللجوء حتى إلى العنف لإجبار الحكومات على تلبية مطالب الناس في العيش الكريم دون مشقة وهوان، لأن هذا في صلب مهامها.
وإن كانت معاناة الفرنسيين، الذين يعانون، والعهدة على الاستبانات، أخف من معاناة البريطانيين، فلماذا يبقى البريطانيون صامتون والفرنسيون ينزلون إلى الشوارع طلبا لحقوقهم؟
المطلعون على التاريخ والواقع لا بد أن يصابوا ببعض الدوار لخطاب مثل هذا، لأنه من النادر أن يقبل بريطاني أن يكون الفرنسي في وضع أفضل منه، أو أن يقال له أن يأخذ الفرنسي نموذجا، والعكس صحيح تماما.
هناك كثير من التكهنات لما قد يحدث على مستوى الشارع في الدول الأوروبية الغربية والحرب في أوكرانيا تستنزف الموارد وتسبب شحا مطردا في العرض ونموا في الطلب على الوقود والمواد الأساسية التي كانت روسيا، وإلى حد ما أوكرانيا، المصدر الرئيس لها.
حق التظاهر والتجمهر والاعتصام مصون في هذه الدول، وحرمان الناس من هذا الحق سيضرب الديمقراطية التي تتباهى بها في الصميم.
إن لم تكن هناك نهاية سريعة للحرب في أوروبا ـ ويبدو أن أصوات المدافع لن تسكت في شتائها القارس ـ هناك أرجحية لكي تصبح أسوأ التوقعات واقعا. ومع مقالات جريئة مثل التي تنشرها جريدة "ذي جاردين" واسعة الانتشار، أظن أننا أمام شتاء قاس لا تئن فيه أوروبا من البرد وارتفاع الأسعار وشح الوقود، بل من اضطرابات اجتماعية واسعة النطاق.