ندون هذه السطور بينما أصوات القذائف والأعيرة النارية وصواريخ الآر بي جي تملأ سماء العاصمة العراقية بغداد، جاء ذلك بعدما أعلن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر اعتزاله العمل السياسي، وبعد أن وصل إلى النتيجة نفسها التي تحدثنا عنها ومن هذا المنبر طوال السنوات الماضية، وهي أن العملية السياسية العراقية معاقة والنظام السياسي مصاب بالعطب، والطبقة السياسية غير قادرة على إصلاح نفسها، وزاد على ذلك تدخل إيران السافر في شؤون هذا البلد، كل هذا جعل البلاد نهباً لأزمة سياسية مستمرة وصراعات حزبية وطائفية وعرقية لا تنتهي حتى تبدأ من جديد. الانتقال من الأزمة السياسية إلى الصراع المسلح بين أطراف العملية السياسية كان مسألة وقت ليس أكثر، وقد بدأت بوادره منذ شهر يوليو عام ٢٠١٧ عندما تم تحرير مدينة الموصل من تنظيم داعش الإرهابي. فعندما وافقت الدولة العراقية أن تقوم ميليشيات خارجة عن سيطرتها بتولي مهام قتالية، فإنها بذلك قد تخلت عن أهم عناصر سيادتها بأن تكون الطرف الوحيد الذي يمتلك السلاح. منذ القضاء على الجسم الصلب لتنظيم داعش فإن الميليشيات زادت من تعقيد الأزمة المتأصلة في جسد الدولة العراقية عبر نظام سياسي صانع للأزمات. النظام السياسي الذي يقوم على المحاصصة الطائفية والتقاسم الحزبي وسيطرة الفاسدين على مفاصل الدولة وتدخل الأطراف الدولية والإقليمية لا يمكن أن يوصف بأنه نظام ديمقراطي، بل هو وصفة للخراب والصراعات السياسية التي يمكن أن تتطور إلى صراع مسلح، خصوصاً إذا تحولت الأحزاب إلى امتلاك السلاح وتحولت إلى واجهات سياسية بمقابل بنى عسكرية ميليشياوية تتبع لها. حتى في ظل تلك العملية السياسية الرثة وبكل مآخذها لم تسمح إيران للعراق بأن يقوم بعملية تداول للسلطة وتدخلت في كل حين لكي تنصّب على العراق من يخدم مصالحها، وإذا لم يكن كذلك كما هو حادث مع السيد مصطفى الكاظمي، فهي لا تترك وسيلة إلا وتستخدمها من أجل تقييد عمله وإجهاض أي مشروع سياسي أو اقتصادي يمكن أن يتبناه. في عام ٢٠١٠ كان العراقيون يتوقون للخلاص من رئيس الوزراء العراقي -حينذاك- نوري المالكي، فراهنوا على الانتخابات وبالفعل فازت القائمة العراقية الوطنية بزعامة الدكتور إياد علاوي، وهذه القائمة تجاوزت الانقسامات الطائفية والعرقية، وحققت الأغلبية النسبية، ولكن إيران وعبر أتباعها وتدخلها في العراق أجبرت الجميع على نوري المالكي الذي بقي جاثماً على صدور العراقيين لأربع سنوات أخرى. ويتكرر السيناريو مرة أخرى في الانتخابات الأخيرة التي فاز بها التيار الصدري ومع ذلك حُرم من حقه في تشكيل الحكومة. أيدينا على قلوبنا ونحن نرى الاقتتال في شوارع العاصمة العراقية ونتمنى أن تكذب كل قراءاتنا للواقع السياسي والأمني العراقي. السيد مقتدى الصدر أدرك الحل وبدأه بنفسه عندما أعلن اعتزاله العمل السياسي، على أن تقوم بقية الأحزاب والكتل والشخصيات بالأمر عينه، وبالتالي تتم إعادة هيكلة النظام السياسي بما يتناسب مع تطلعات الشعب العراقي وطموحاته، ولكن المراهنة على هذه الطبقة السياسية لا تبدو في محلها فهي غير معنية بسلامة العراق وأمنه، بل معنية بفسادها ونهبها العراق. ندعو الله أن يتم احتواء الوضع وتجنيب العراق مزيداً من الآلام والدموع وأن يعود العراق جزءاً عزيزاً وغالياً من جسدنا وتاريخنا ومستقبلنا.