دخل لبنان قبل يومين أي 1 أيلول/ سبتمبر 2022 ما يمكنني تسميته ب«الفترة الحرجة والخطرة جدّاً» يُصار خلالها دستورياً بالدعوة لجلسات برلمانية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وجوه الخطورة متعددة تتقدّمها السجالات والأفكار الجهنمية والأحاديث الجديدة القديمة الموسومة بالفراغات الشاملة، يجتهد فيها السياسيون متنافرين ضالين وكأنهم مسكونون بحنين جنوني نحو العام 1989 تاريخ حروبهم المتعددة الهويات والأثقال.

أيُعقل ألّا يُستعاد التاريخ إلاّ في لبنانكم. تعاسة ما بعدها تعاسة، هذه الأجواء تُعيدنا إلى ما قبل الطائف بعدما تُرك حبل الصراعات في حروب لم توفِّر رأساً من السقوط. ضربتم دولتكم، وأضعفتم مؤسّساتها وتمّ تفكيكها، وانهار المجتمع باستقراره وتوازنه وبات كلّ شيء مباحاً، والوطن الصغير صار سائباً بلا سقوف. كانت الأسئلة والحلول تسقطونها قبل قراءتها كما يحصل اليوم تماماً. وكانت سرعة الأحداث التي أفرزتها مشاعر الغبن والتشاوف والقهر والكيدية تطحن الأسئلة، لتحضر أسئلة وأفكار جديدة كانت وما زالت وستبقى مستحيلة مثل التقسيم والفيدرالية وما شابه.

تذكّروا معي جيّداً، أنّ تلك المرحلة المستعادة اليوم، بدأت في 23 أيلول/ سبتمبر 1989، موعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل، حيث تمّ في الربع ساعة الأخيرة تشكيل حكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون. تعطّلت جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في 18 آب/ أغسطس 1989 بالقوة والقصف، ورفض ميشال عون وسمير جعجع قائد القوات اللبنانية يومذاك قيام حكومة برئاسة النائب بيار حلو، لتنقسم العاصمة بيروت بين شرق وغرب، وأُقصي المجلس النيابي عن أداء دوره، بل انقسمت السلطات ومؤسسات الدولة حتّى المراسيم الجوّالة كانت توقّع في الملاجئ. تذكروا الحروب المغمّسة بالطائفية وبالخارج، وبدت البلاد في مأزق رهيب شبه متروك، وحضرت الخيارات الصعبة وقد كان أصعبها حروب التحرير ثمّ الإلغاء التي دارت بين قوى مسيحية والتي لم تعرف آثارها الدموية اليباس حتى بعد مرور 34 سنة أراها كأنها اليوم حول كرسي بعبدا.

تذكّروا معي جيّداً، مؤتمر القمّة العربي غير العادي، الذي عُقد في الدار البيضاء (من 23 إلى 26-5-1989) لتتألّف من خلاله اللجنة الثلاثية العليا المؤلفة من ملك المملكة العربية السعودية (فهد بن عبد العزيز) وملك المغرب (الحسن الثاني) والرئيس الجزائري (الشاذلي بن جديد) والتي أوفدت مندوبها الأخضر الإبراهيمي إلينا ولعب دوراً كبيراً. ألا تذكّركم هويات أعضاء هذه اللجنة بأنها جاءت مثقلة بالضمانات: الجزائر تُرضي الأطراف «النضاليّة» في لبنان ومنه، في الوقت الذي تمثّل المملكة طموح المعتدلين في لبنان ورضاهم، وتمثّل المغرب حضوراً إقليميّاً ودولياً ضروريّاً لهذه اللجنة التي عُرفت يومها ب «واجهة السلام».

تذكّروا معي جيّداً، أنّ لبنان استمرّ إلى مائدة النار من (30-8 -1989) حتّى رفعت اللجنة الثلاثية العليا تقريرها إلى قادة العرب مرفقة «بوثيقة الوفاق الوطني» التي شكّلت مادة نقاش اللقاء النيابي في مدينة الطائف من 30-9-1989 حتى 22-10-1989 تاريخ إقرار اللقاء النيابي لهذه الوثيقة التي صدقتموها في مطار القليعات (5 تشرين الثاني/ نوفمبر) 1989 وانتخبتم في الجلسة نفسها رينيه معوض رئيساً للجمهورية الذي أوكل للدكتور سليم الحص رئاسة الوزارة في 13-11-1989. وجاء اغتيال الرئيس معوض بعدها ب 10 أيام، الصدمة الهائلة التي دفعت بنوابكم إلى انتخاب إلياس الهراوي رئيساً للجمهورية في اليوم التالي، وكان الهجوم على قصر بعبدا بالطيران مُنهياً مرحلة عون في (13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1990). حكم بعدها الهراوي تسع سنوات ما سُمي بالجمهورية الثانية التي تسلّمها قادة الجيش بصيغة الجمع من العماد إميل لحود تلاه العماد ميشال سليمان لتعود إلى الجنرال ميشال عون الذي لطالما يُذكّر اليوم بتركه القصر حين انتهاء ولايته.

وتذكّروا أن انتهاء الحروب كان في 1990-1991؛ إذ توحد الجيش وحُلَّت الميلشيات، وتسلّمت الدولة المرافئ والمرافق العامة والمؤسّسات. لكنّ هذا المناخ التغييري كان يرضي قسماً كبيراً من اللبنانيين، ويساعدهم على تنظيف ملامح الجمهورية الثانية المتعثرة، في الوقت الذي كان الفرقاء المعارضون لهذه الملامح والأفكار والدستور هم هم، وقد فشلوا جميعاً في الصمود والتطوير حيال إعادة بناء سلطات الدولة الحضارية، لذا نراهم اليوم ينشدون استعادة التاريخ وإيقاظه فوق مآسينا.