هل أوروبا على حافة الهاوية؟ إن أمعنا النظر في الصحافة الغربية ودققنا الأحداث بعد ستة أشهر من حرب دموية ساحتها حتى الآن الأراضي الأوكرانية، لربما لم نستغرق كثيرا في الإجابة عن هذا السؤال.

الأحداث إن كانت تخص مسار الحرب أو الصراع المرير على الطاقة العادية تشير وبوضوح إلى أن أوروبا في مواجهة معركة وجود مع مقدم الشتاء، والإصرار على زيادة نار الحرب في أوكرانيا اشتعالا.
يخطئ من يتصور أن الحكمة ورجحان العقل مع البحث عن حلول وسط ستضع نهاية قريبة لهذه الحرب مع ما تجلبه من مآس على المستوى الإنساني، وصعوبات اقتصادية لم تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
الطرفان - روسيا من جهة، وأوكرانيا وحلفاؤها الغربيون من جهة أخرى ـ ليسوا في وارد المساومة أو تقديم تنازلات. الطرفان دخلا معركة كسر العظم، بمعنى أن الغرب لن يتنازل عن موقفه الداعي إلى حرمان روسيا من الانتصار مهما كانت التكلفة، وروسيا لن تقبل أقل من الانتصار مهما كانت التكلفة.
قد لا يعلم القارئ الكريم مدى العداء المستفحل بين الطرفين، وانعدام الثقة المتبادلة.
وقد لا يعلم القارئ الكريم أن الطرفين في "ورطة كبيرة"، ومثلهما مثل الذي سقط في حفرة، فبدلا من العمل على الخروج منها يستمر في الحفر إلى درجة أن يصبح الخروج شبه مستحيل.
كان هناك انشراح في الغرب للاختراقات التي حققها أخيرا الجيش الأوكراني، وانتشى البعض غبطة بعد أن هبطت أسعار الغاز الطبيعي أكثر من 20 في المائة نتيجة النجاحات الأوكرانية في ساحة المعركة.
لكن نسي الصحافيون والمحللون أن الأسعار لا تزال 460 في المائة أعلى من مستوياتها بعد التهديد الروسي باحتمال قفل صنابير الغاز في وجه الدول الأوروبية الغربية.
هناك صراع وجود في أوروبا على أكثر من مستوى. عسكريا، الأمور لم تصل إلى خواتيمها وقد لا تصل، لأن تراجع أي طرف معناه دخول أوروبا وربما معها العالم حقبة جديدة قد تقرر مصيرها لقرن مقبل أو أكثر.
يبدو أن الدول الغربية الأوروبية، التي تعاني الأمرين من هذه الحرب، مصممة على تحمل تبعاتها مهما بلغت من القسوة. فها هي الشركات والأعمال التجارية والعائلات على طول وعرض القارة تئن من وطأة الحرب في الجانب الاقتصادي، خصوصا الارتفاع الجنوني في أسعار الطاقة.
مع ذلك، هناك معركة شرسة أخرى تدور رحاها في صفوف الحكومات يقودها الاتحاد الأوروبي للعمل على تحمل الصعاب مهما بلغت، لأن من غير المسموح التهاون مع روسيا أو الرضوخ لموقفها، لأنها المصدر الرئيس لوارداتها من الطاقة.
قبل نحو أسبوعين تم إشعار كل مستهلكي الكهرباء في السويد أن الأسعار وصلت حدا غير مسبوق ونحن ما زلنا على عتبة الشتاء ودرجات الحرارة لم تهبط تحت الصفر بعد.
والحديث حول تقنين استهلاك الكهرباء والغاز صار يأخذ منحى الجدية بعد أن كان مجرد تكهنات أو توقعات، وكل هذا يحدث وروسيا حتى الآن لم توقف الإمدادات، بل خفضتها بنسبة نحو الثلث لما كانت عليه قبل تدخلها العسكري في أوكرانيا.
فواتير الكهرباء حاليا مرتفعة جدا وصارت تثقل كاهل ذوي الدخل المحدود، وكثير من المعامل والأعمال التجارية الصغيرة تفكر مليا في وقف أو خفض الإنتاج لتقليل استهلاك الكهرباء.
وكل هذا، ونكرر، يحدث قبل أن ينشب الشتاء الأوروبي أنيابه وتجمد البحيرات ويكسو الصقيع والثلج الأرض وأسطح البيوت.
وحسب الإحصاءات المتوافرة، فإن فواتير الطاقة زادت عشرة أضعاف عما كانت عليه قبل الحرب في أوكرانيا، وهناك تقارير أن كثيرا من المصانع ترى الأسعار المرتفعة هذه ستخنق العملية الإنتاجية لديها، وأن كثيرا من العائلات تجد صعوبة كبيرة في دفع الفواتير. ويصف البعض الوضع بالكارثي إن لم تتدخل الحكومات وتخفف وطأة الأسعار عن كاهل المستهلكين.
وبدلا من وضع سقف لأسعار النفط الروسي -وهي خطط لم تؤت أكلها- تفكر الحكومات الأوروبية حاليا في وضع سقف لأسعار الكهرباء والطاقة في دولها.
ووفقا للتقارير، فإن دول الاتحاد الأوروبي قد خصصت 500 مليار يورو لدعم أصحاب الدخل المحدود والشركات والأعمال التجارية الصغيرة، لتمكينها من دفع فواتير الكهرباء والطاقة. بيد أن هناك خشية من أن زيادة السيولة مرة أخرى، بعد أن كانت البنوك المركزية قد فتحت خزائنها لتخفيف وطأة الإغلاق جراء وباء كورونا، ستؤدي إلى مزيد من تقهقر سعر العملة الأوروبية -اليورو- العملة المشتركة التي انخفضت قيمتها إلى أدنى مستوى لها أمام الدولار.
أوروبا تشهد صراعا كالذي يعصف بها حاليا منذ الحرب العالمية الثانية. الفرق مع فترة الحرب العالمية الثانية، هو أن أوروبا لم تكن قد توصلت بعد إلى إنتاج القنابل النووية.
لكن حاليا الوضع مختلف، لأن الطرفين مدججان بأسلحة نووية وكذلك بأسلحة اقتصادية تمكنهما من إلحاق أكبر قدر من الأذى ببعضهما، وهذا ما يحدث في الواقع دون أن يرف لهما جفن حتى الآن.