واضح من عنوان الكتاب ومن مؤلفه أنه كتاب في الفكر. لكن حين اندمجت في قراءة مقدمته أحسست أنني أقرأ رواية. سألت نفسي: كيف يمكن تناول موضوع معقد كهذا، يتطلب حمولة من المفاهيم الفلسفية والأنثروبولوجية، بهذا السرد الآخاذ؟ لم أبق في هذه الحيرة طويلاً فسرعان ما انتهت المقدمة التي لم تتجاوز ست صفحات من الكتاب، لنودع السرد الممتع وندخل في دهاليز التحليل الفكري والفلسفي للموضوع الذي يتناوله الكتاب.

خطر في بالي لحظتها خاطر.. أليست هناك الكثير من الروايات العميقة، وحتى من القصص القصيرة ومن المسرحيات من ذات الطينة، تتناول قضايا فلسفية ووجودية عميقة، ولكن على شكل سرد آسر كذاك الذي كانت عليه مقدمة الكتاب الذي سنأتي على ذكره الآن؟ في المقدمة يتحدث المؤلف، مارك أوجيه، عن رجل يقود سيارته متوجهاً إلى المطار، أراد أن يسحب بعض المال من الصرّاف الآلي، وتوقف ليفعل ذلك، ثم يشرح الكاتب كيف تمت العملية بالسلاسة التي نعرفها جميعاً حين نفعل الأمر نفسه. وبعد أن وصل إلى مبنى المطار ركن سيارته في قبو من أقبية مواقف السيارات، وبسهولة أيضاً، وتوجه نحو شباك تسجيل الركاب المخصص لرحلته على الخطوط الجوية الفرنسية، وشعر بالراحة حين تخلص من حقيبته التي تزن 20 كيلوغراماً، وهكذا يستطرد الكاتب في وصف رحلة الرجل الجوية بكل تشويق.

من هذا كله يأخذنا الكاتب في الصفحات التالية من كتابه إلى أننا حين نكون في الطريق السريع أو في محطة قطار أو في مطار أو طائرة أو في فندق أو في مساحات التجارة الكبيرة، أو حتى في مخيم لاجئين فإننا لا نكون في مكان وأنما في «اللامكان».

لماذا لا تكون كل تلك أمكنة؟ سيجيبنا الكاتب بالقول: «المكان في معناه الأنثروبولوجي لا يكون مكاناً إلا بما يثبت فيه من رموز ومعان عبر المسارات والعلاقات والأفعال والأحاديث وما ينبعث فيها من احتمالات». وبتوضيح أكثر يضيف: «كل مكان لا هوية له ثابتة، لا تنسج فيه العلاقات ولا تستمر، ولا ملامح تاريخية له هو واحد من هذه اللا أمكنة».

بقي القول إن عنوان الكتاب هو: «اللا أمكنة»، وترجمته إلى العربية د. ميساء السيوفي. وهو كتاب يستحق وقفات تالية.