على عكس ما يسعى إليه الرئيس الأميركي جو بايدن ورؤساء الدول الأوروبية، من محاولة إبلاغ روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين بأنَّ الجبهة الغربية الأوروبية والولايات المتحدة وكندا، ومعها اليابان وأستراليا، لن تتخلى عن أوكرانيا بحدودها الجغرافية المثبتة في منظمة الأمم المتحدة والموسوعات الجغرافية الدولية؛ فإن الأشهر السبعة الماضية منذ بدء الاجتياح الروسي لأوكرانيا أثبتت أن الحدود الأوكرانية رخوة وهشة أمام القوات الروسية، ولولا إمدادات الأسلحة الأميركية والأوروبية الحديثة لما واجهت روسيا مصاعب وعقبات في الأراضي التي احتلتها، واضطرت إلى الانسحاب من مساحات شاسعة كانت على وشك أن ترضخ لاستفتاء روسي لإلحاقها بالنفوذ الروسي أرضاً وسكاناً ولغة وثقافة.

في تلك الأيام الحرجة التي سبقت الاجتياح الروسي، كان الانطباع الغربي العام باستثناء بريطانيا والولايات المتحدة أن أقصى ما تهدف إليه موسكو، هو إبعاد الناتو عن الحدود الروسية لتلافي أي مواجهات عسكرية تفتح باب جهنم بين الجانبين. كان همّ فرنسا، كما قال الرئيس الفرنسي ماكرون، هو خفض التصعيد المتوتر وإزالة حالة الغموض العسكري والضبابية السياسية. لم تكن تجاعيد الخطاب الروسي توحي أن ثمة حرباً واسعة في الطريق على طريقة أفلام هوليوود والخيال العلمي. لكن حدث العكس بين يوم وليلة؛ اكتسحت الدبابات الروسية الحدود الأوكرانية الشرقية ودخلت مقاطعة دونباس الحدودية ذات الطابع الروسي، وبدأت راجمات الصواريخ تنهال على العاصمة الأوكرانية كييف، خصوصاً القطاعات المدنية من العمارات السكنية والأسواق وأنفاق المترو والمدارس والجامعات والمطارات والأسواق والمستشفيات.
لقد دق جرس الإنذار؛ إنها الحرب بالأبيض والأسود وليست بالألوان، ولا مجال للتخمين أو إعادة النظر. وبين يوم وليلة غادر أوكرانيا إلى بولندا وألمانيا أكثر من مليون لاجئ من رجال ونساء وأطفال بحثاً عن الأمان، وخلال شهر واحد ارتفع عدد اللاجئين الأوكرانيين إلى خمسة ملايين توزعوا على عدة دول في انتظار تدخل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لعودة الأمور إلى نصابها.
بذلك انتهت الصفحة الأولى من الحرب، ولا أحد يعرف من الغالب ومن المغلوب، لأن الصفحات الأخرى لم تبدأ ولم تنتهِ. الآن بدأ الرئيس بوتين يتحدَّث عن «الضربة الاستباقية»، و«الرعب والاستفزاز والتنكيل»، و«التعبئة الجزئية من الاحتياطي العسكري»، والأخطر «تهديدات نووية» و«أسلحة الدمار الشامل» و«الطابور الخامس». هل هو فيلم رعب بالأبيض والأسود؟ إلى أين يريد بوتين الذهاب؟ جلس الرئيس نحو ساعة من الزمن الصعب يستعرض رؤيته السياسية لقيادة العالم تحت عنوان «تعدد الأقطاب»، بدءاً من «العملية العسكرية الخاصة» إلى «إعلان التعبئة الجزئية في الجيش الروسي».
ذكرت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية أن الأمم المتحدة بدت «أكثر واقعية وملاءمة، لأن منصتها بدت كطاولة مستديرة حولها ما يكفي من المقاعد لجميع من يرغب في الجلوس والتعبير عن مصالحه، والوصول إلى قرارات تكفل توفير الأمن والسلام والازدهار والمصالح المطلوبة لجميع الأطراف». أما ساعة الرئيس بوتين الخطابية، فهي لا تحل مشكلة من الفقر في العالم إلى جائحة كورونا والتغيير المناخي والحرب الأوكرانية وخيارات الرئيس بوتين نفسه، وعلى رأسها التهديد العلني باستخدام السلاح النووي.
من حق الرئيس الروسي أن يعلن عن «تعبئة عسكرية محدودة» أو «تعبئة شاملة»، بعد أن تراجعت القوات الروسية نتيجة هجوم مضاد شنته القوات الأوكرانية مؤخراً، واستعادت به آلافاً من الكيلومترات من أراضيها. وأكد مسؤولون أميركيون أن موسكو «تجد صعوبة في تجنيد مقاتلين للمشاركة في الحرب الأوكرانية».
وهذه أول مرة تلجأ فيها موسكو إلى إعلان التعبئة العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، وهي ستصعّد حدة الصراع بالتأكيد لأن هناك «أخطاء كبيرة» في الحسابات الروسية، كما قال الأمين العام لحلف «الناتو» ينس ستولتنبرغ، يوم الأربعاء الماضي.
ووصف الباحث الروسي دينيس كوركودينوف رئيس المركز الدولي للتحليل السياسي قرارَ بوتين باستدعاء تعبئة جزئية من المجندين السابقين بأنه «إجراء قسري بعد أن دخل العالم بالفعل في مرحلة تحضيرية للحرب العالمية الثالثة، وأصبح الحديث عن جدوى استخدام الأسلحة النووية أمراً شائعاً للغاية». وكشف الباحث الروسي عن أن عدداً من السياسيين ورجال الأعمال الأوكرانيين «أبرموا صفقات لشراء مكونات قنبلة نووية في سوق الظل»... على حد زعمه.
في المقابل، لا يمكن إلقاء اللوم كله على روسيا في هذا التصعيد والمناخ الموتور، فالغرب رد على التعبئة الروسية بعقوبات أوروبية جديدة على روسيا، مع أن معظم العقوبات السابقة، وفي مقدمتها الطاقة انعكست سلباً على الدول الأوروبية. والغرب لم يكن في يوم من الأيام منصفاً مع الشعوب المغلوبة على أمورها سواء في عهود الاستعمار والعبودية من الهند، وما حولها إلى الشرق الأوسط وأفريقيا وأستراليا والقارة الأميركية نفسها.
وفي هذا الشأن، تطرق الرئيس بوتين في خطابه إلى الغزو الأميركي على العراق في عام 2003، وقال: «إن غزو العراق لم تكن له أي أسس قانونية.
لقد استخدم الأميركيون ذريعة المعلومات الموثوقة المزعومة المتوفرة لدى الولايات المتحدة عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق، ولإثبات هذا الادعاء، رفع وزير الخارجية الأميركية قارورة مسحوق أبيض علانية في قاعة الأمم المتحدة ليراها العالم بأسره، مؤكداً للمجتمع الدولي أن هذا المسحوق هو عنصر حرب كيمياوية تم تصنيعه في العراق». وأضاف بوتين: «اتضح فيما بعد أن كل ذلك كان تزويراً وخداعاً، وأن العراق لم يكن يمتلك أي أسلحة كيمياوية».
شكراً للرئيس الروسي على كلمة الحق هذه. لكننا نتحدث اليوم عن الحرب الأوكرانية التي يُراد لها أن تصبح حرباً عالمية ثالثة. علق دبلوماسي أجنبي يعمل في الأمم المتحدة عما يحدث بقوله: «لا توجد رؤية سياسية تحل الأزمات الصعبة. لقد ذهب عصر القادة المفوهين مثل الرئيس الكوبي فيديل كاسترو ورئيس جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا ورئيس وزراء الاتحاد السوفياتي خروتشوف». الخيارات المفتوحة أمام الرئيس بوتين اليوم هي إما الاستمرار في حربه على أوكرانيا في مغامرة تعبئة 800 ألف عسكري من الضباط السابقين وجنود الاحتياط ومعظمهم من كبار السن، الذين يحتاجون إلى إعادة تدريب على الأسلحة القديمة والحديثة لعدة أشهر على الأقل.
أو إلغاء القرار القسري الخاص بالتعبئة العامة الذي هزّ المجتمع الروسي.
وهناك خيار ثالث هو أن يطلب بوتين ما يشاء من ضمانات دولية ثمناً للسلام العادل والدائم في أوروبا والعالم. وبذلك نشاهد فيلماً بالألوان.