انطلق مشروع النهضة، بالكفاح ضد السلطنة العثمانية، وحمل قادته المشروع على عاتقهم، بعد تكشف النتائج الكارثية للحرب العالمية الأولى. واعتبروا القومية، عقيدة تحشيدية ونضالية من أجل تحقيق هدف الوحدة. وجرى تعريفها على أنها الهوية الجامعة لأفراد ينتمون إلى أرض واحدة، تمتد من الخليج إلى المحيطة، يجمعهم أنهم ناطقون بالعربية، وينتمون إلى جغرافيا وتاريخ مشترك، ويدين غالبيتهم بعقيدة الإسلام.

تم النظر في حينه من قبل المنظرين القوميين الأوائل بشكل سلبي، إلى الهويات الأخرى، بما في ذلك الهويات الوطنية. فوفق الرؤية القومية، اعتُبرت الدول الوطنية نتاج مشروع التجزئة. وعلى أساس هذه النظرة تشكلت حركات وأحزاب سياسية، اتخذت موقفاً سلبياً من الدولة الوطنية، متأثرة بإفرازات ما حدث من تجزئة لبلاد الشام.

نظر المشروع النهضوي القومي إلى المجتمعات العربية، على أنها مجتمعات كسيحة وعاجزة عن الاضطلاع بمشاريع التنمية ونقل المجتمع العربي، ليكون في مصاف الأمم الراقية. لقد ظل تحقيق الوحدة العربية، مفتاحاً لمعالجة كل المشاكل، وتحقيقها يتم من الأسفل إلى الأعلى، نتيجة تلاقح بين حركات التحرر الوطني التي قادت الكفاح ضد الاحتلال.

وسكن في يقين معظم المفكرين العرب الأوائل، أن النهوض يتحقق بالاندماج التام، وأن ليس هناك ما يمنع العرب من تحقيق ذلك، طالما يجمعهم التماثل في اللغة والثقافات والعادات والمصالح المشتركة.

وقد أثبت التطور التاريخي عدم دقة هذه النظرة، وضرورة تجاوزها من قبل رواد الفكر العربي. فالبلدان العربية، لم يتشكل معظمها بإرادات خارجية، كما كان ينظر له، منذ بروز نتائج الحرب العالمية الأولى إلى وقت قريب من القرن المنصرم. فكثير من هذه البلدان هي من صنع التاريخ، ومضى على بعضها، بسياقها الحالي، آلاف السنين، مثل مصر وتونس والجزائر.

يضاف إلى ذلك أن التجارب التاريخية، أكدت أن الوحدات السياسية، تأتي لتلبي الحاجة إلى واقع موضوعي، وأن المجتمعات الإنسانية، لا تتماثل حتى وإن جمعتها لغات وثقافات مشتركة. إن وجود لغات وثقافات مشتركة، هي عامل مساعد، لقيام وحدات سياسية واقتصادية، لكنها بمفردها لا تحتم تحقيق ذلك. فقانون الوحدة هو التفاعل والتكامل وليس التماثل.

ثم إن اعتبار الاندماج شرطاً لمعالجة التخلف والانطلاق للبناء والتنمية ليس أكيداً، لأن التفاعل يتم بين أجزاء صحيحة، وليست عليلة. إن مثل الطرح التقليدي للوحدة، في حالة تعميمه، يعفي الدولة الوطنية من مهامها التاريخية، ويقدم المبررات لتقصيرها في أداء مهامها، نظراً لأنها لن تكون قادرة على تحقيق مهام النهوض إلا في ظل دولة الوحدة.

الرؤية الجديدة للهوية في المشروع النهضوي الجديد، ينبغي أن تنطلق من أن الدولة الوطنية، هوية جامعة، وليس مجرد هوية فرعية. إن ذلك يفترض فيها أن تنهض كدولة مستقلة بمجتمعاتها، على كافة الصعد. وأن تلبي حاجة مواطنيها من صحة وتعليم وسكن وأمن ورخاء، وتأمين مستلزمات الدفاع عن الوطن، وما يستوجبه ذلك من بناء جيش قوي وأجهزة أمنية حديثة، وخطط تنموية طموحة، وما إلى ذلك من مستلزمات بناء الدول العصرية. والوحدة العربية، ضمن هذا السياق، تأتي تلبية للاحتياجات الوطنية، ومتطلبات النهوض بالمجتمعات العربية.

إن هذا التطور لمفهوم الهوية، يعني أن مقولة قوة الأمة في وحدتها، لا تعني بالضرورة، تحقيق الوحدة الاندماجية العربية. فما تحتاج إليه الأمة، هو تلبية حاجات الناس ومتطلباتهم واستحقاقاتهم في الحرية والكرامة، والتنمية. إن ذلك يفرض الحاجة، إلى تأسيس نظام عربي، لا مركزي، يتجه نحو أنموذج سياسي عملي وواقعي، حيث لا تناقض بين الهوية الوطنية، وهوية الأمة، بل تكامل وتفاعل بينهما، فيغدوان مصدر قوة وحيوية للأمة بأسرها.

ويمكن أن يتحقق هذا النوع من الاتحادات بشكل تدرجي، يشمل القضايا الأساسية، المرتبطة بالحاجات اليومية إلى البشر، وفي المقدمة منها تحقيق التكامل الاقتصادي العربي، وتوحيد الأنظمة الجمركية، والكهرباء، ومد السكك الحديدية وخطوط المواصلات البرية والجوية. وأيضاً من خلال إحياء معاهدات واتفاقيات، وقعها القادة العرب، في شؤون الأمن والدفاع، وبقيت لعقدة عقود دونما تفعيل، كمعاهدة الدفاع العربي المشترك والأمن القومي العربي الجماعي، والوحدة الاقتصادية والثقافية شرط أن يتحقق تفعيل ذلك وفق سياقات وطنية وبإرادة حرة ومستقلة، ومن غير تبعية أو خضوع للخارج.