حلف شمال الأطلسي «الناتو» الذي يتكون من 30 دولة حليفة تمثل الدول الأوروبية منها 27 دولة، إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية وكندا وتركيا. وتنصّ المادة التأسيسية الأهم للحلف أن أي هجوم مسلح ضد إحدى الدول الأعضاء يعتبر هجوماً ضد جميع الأعضاء، ويجب على الأعضاء الآخرين مساعدة العضو المعتدى عليه حتى لو تطلب الأمر استخدام القوة المسلحة. وقائمة الراغبين للانضمام للحلف طويلة، وهو ما يفسر حضور العديد من رؤساء ومسؤولي دول صديقة وحليفة لقمم حلف شمال الأطلسي، وإنْ كانت ليست عضواً في «الناتو»، وذلك على شاكلة أستراليا وجورجيا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية، وبعض الدول العربية ودول عديدة أخرى، وهو ما يعكس أهمية هذا الحلف في منظومة النظام العالمي.
ووفق مقتضيات التطورات على الساحة الدولية في الآونة الأخيرة، فقد طرأت تحولات في المبادئ التوجيهية وأولويات الحلف للفترة ما بين الأعوام (2022- 2030)، ويظهر ذلك جلياً من خلال إعادة التموضع في أوروبا وفتح الباب في الوقت ذاته على مصراعيه أمام شراكات استراتيجية في آسيا، حيث حضر أعمال قمة الحلف التي عقدت في مدريد في يوليو المنصرم للمرة الأولى شركاء الحلف في منطقة آسيا والمحيط الهادي على مستوى القادة، وذلك لترسيخ النظام الدولي القائم على القواعد البراغماتية التي وضعها الحلف، حيث هيمنت تلك القواعد على «الوثيقة الأساسية» التي توضح قيم «الناتو» وأهدافه، وتحدد التحديات الأمنية التي تواجهه والمهام السياسية والعسكرية للفترة المقبلة.
وقد اعتبرت الوثيقة الجديدة للحلف أن التحديات التي تشكلها تحركات واستراتيجيات وتحالفات روسيا والصين، والبعد المتطور للإرهاب، وهجمات الفضاء الإلكتروني والتقنيات التخريبية، والتأثير الأمني للتغير المناخي هي التهديدات الأكثر أهمية لأمن «الناتو». وأما
قضايا الشرق الأوسط فقد تراجعت إلى مرتبة أدنى في سلم أولويات الحلف، ما يفسر غياب إسرائيل عن حضور القمة كاحتجاج ضمني لتوجهات الحلف المستقبلية، وهل هو حقاً تراجع أم تمهيد لأدوار خفية سيلعبها الحلف لفك شفرات قضايا الإقليم خلال الفترة المقبلة، ومواجهة تنامي الوجود المحتوم للصين وروسيا والهند في صناعة تكتلات ستحدد مستقبل المنطقة مع فرض كبار المنطقة خيار التقارب بين دول المنطقة وما سيتبعه من تطورات.
فالأحداث في أوكرانيا وتايوان تعكس مدخلاً مباشراً لفهم آليات الحركة ومناطق التركيز التي سوف يقوم بها الحلف خلال العقد المقبل، وما هي المناطق بالتحديد في منطقة الشرق الأوسط التي ستكون ضمن ذلك الحراك، ومن سيكون ضمن دوائر التهميش غير المعلن. وأعتقد أن ما سيتربع على سلم الأولويات حسب عدد المرات التي ذكرت في وثيقة «الناتو» الجديدة المكونة من 16 صفحة، هي المسألة الروسية، وتليها الصين وتايوان، ومن ثم الإرهاب في حلته الجديدة التي تأخذ الطابع المؤسسي، ثم التواجد في القارة الأفريقية وخاصةً أمن شمال أفريقيا المتاخمة لأوروبا، ثم إعادة تشكيل النفوذ في دول البلقان، ثم الشرق الأوسط، وأخيراً أفغانستان.
ويبدو لي أن الخليج العربي في المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف ليس منطقة ذات «مصلحة استراتيجية قصوى»، وبذلك تكون الخريطة الجديدة لسياسة الحلف العسكرية قد حددت لأول مرة وبصريح العبارة خطوط المواجهة والتأمين والتمركز الأهم، وترك مساحة لإسطنبول للعب دور أكبر في منطقة الشرق الأوسط، وترك دول الخليج العربية تحت التهديد الإيراني كردع متقدم للقرارات التي قد تتحكم بسوق الطاقة العالمي، وتقييد تعاونها مع المنافسين الاستراتيجيين للحلف، ولذلك ليس من مصلحة الحلف أي وحدة خليجية أو عربية أو أي تقارب إسلامي، والبقاء على التعاون الأمني على أساس ثنائي وليس على أساس تكتل خليجي أو عربي مع «الناتو»، مع وضع الشرق الأوسط في حالة عدم استقرار متوازن، والرفع والخفض من حدة التوتر والنزاعات والصراعات بالقدر الكافي الذي لا يخل لفترة مؤثرة بأمن الطاقة وأمن سلاسل الإمداد والتوريد.