أولاً: لا شك أنَّ الولايات المتحدة وشركاءها في الناتو، هي من بدأ استفزاز روسيا، بتجاوزها خطوط «المجال الحيوي» للهيبة، أو السيادة الروسية. كذلك فإنَّ أميركا هي من استفزّ الصين، عندما قررت رئيسة مجلس النواب القيام بزيارة إلى تايوان رغم اعتراض وتحذير الصين.

ولكن هناك ألفُ «لكن» تخطر في هذا العالم الملوث برائحة البارود والجثث والمليء بأحزان الشعوب. ألم يكن من الممكن للزعيم بوتين أن يستنفد التفاوض والبحث عن تسوية قبل أن يبدأ في دك أوكرانيا مدينةً مدينةً، وأن تبلغ خسائره آلاف القتلى؟ ومَن أرعبت الصين في المناورات العسكرية الهائلة احتجاجاً على زيارة نانسي بيلوسي، أميركا أم تايوان؟
صحيح أن أوكرانيا كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي. ولكن جاء وقت وأرادت الاستقلال، وشكراً للإخوة الروس، ألا يحق لنا ذلك؟ ماذا حدث لمبدأ حق تقرير المصير؟ كانت تجربة هونغ كونغ وتايوان في الحياة خارج الصين لمائة عام، من تجارب الحريّة المذهلة والتفوق. والآن لا تريدان العودة إلى «البرّ الصيني». لماذا لا يجري استفتاء بدل المصادرة بالإرغام؟ وبالدمار والحروب؟
منطق القوة يُبقي هذا العالم في حالة ظلم دائم. أميركا هاجمت دولة في حجم إبهامها تُدعى بنما، وأخرى في حجم كفها تدعى غرينادا، وكانت قبل ذلك قد قامت بجولة احتلالات حول العالم من أجل فرض الديمقراطية!
ذروة الاختلال العالمي حالياً هي حرب أوكرانيا بالطبع. تحولت الآن إلى حدث من الدرجة الثانية ورتابة يومية. والنهاية شبه مستحيلة، لأنها تعني إذلال روسيا أو إذلال الغرب. وفي غضون ذلك يخسر العالم أجمع مئات المليارات كل يوم، وتنزف اقتصاداته وشعوبه في سبيل إنقاذ أوكرانيا من «حفنة من النازيين» على رأسهم كوميدي سابق من فئة ممثلي المسلسلات المكسيكية.
الحقيقة أن العالم كله ملهاة مؤسفة. انفلات مريع وسقوط هائل لمؤسسات الردع، منذ أن قرر جورج بوش الابن الحرب على العراق من دون غطاء دولي صوري. فقد كان يأخذ قراراته من الله الذي «يتحدث إليه صباح كل يوم». لا يستطيع الأمين العام للأمم المتحدة، السنيور غوتيريش، أن يفعل أكثر مما يفعل كل يوم. وهو أن يُطلعنا على ما نعرف جميعاً عن أحوال وأهوال العالم الذي نعيش.
اختلال تام في جميع مراكز النظام العالمي. روسيا غارقة في أوكرانيا، والمنصب الثاني في أميركا للسيدة كامالا هاريس، والصين تطلق مدافعها في الهواء، بانتظار مدافع الأسوار.