بمعنى ما، ينبعث اليوم مهزومو الحروب السابقة على هيئة انتصاريّة. إنّهم ينبعثون على هذه الهيئة بالضبط؛ لأنّ انتصارات الماضي عليهم لم تكتمل؛ أي لأنّ الماضي لا يمضي بسهولة وبتلقائيّة. في إيطاليا، وعلى رأس تحالف يمينيّ، يعود «النيوفاشيّون» إلى الحكم، كما لو أنّ الفاشيّة وموسوليني لم يُهزما في الحرب العالميّة الثانية. في الحرب الروسيّة الراهنة على أوكرانيا ثمّة ما يوحي بنيّة موسكو العودة إلى ما قبل هزيمة الاتّحاد السوفياتيّ في الحرب الباردة. حتّى الانكسارات التي مُنيت بها الإمبراطوريّات الكبرى في الحرب العالميّة الأولى، تجد من يعمل على نقضها... الرئيس التركيّ رجب طيّب إردوغان ربّما كان أبرز هؤلاء المرتدّين إلى ماضٍ إمبراطوريّ... حكّام إيران هم بالتأكيد أنشط العاملين على تأسيسه. في الوقت نفسه، يجسّد واقع أوروبا الراهن محاولة الدولة - الأمّة الانقضاض على انتصار العولمة: لقد ضعف مشروع الاندماج الأوروبيّ بسبب «بريكست»، فيما تتكاثر القوى القوميّة التي تطالب بوضع حدّ للاتّحاد العابر للدول، أو للحدّ من فاعليّته...

تلك الوقائع مجتمعةً، معطوفةً على انبعاث حركات أصوليّة من كلّ نوع، وفي سائر بقاع الأرض، تعلن كم أنّ المسار الخطّيّ للتاريخ خرافة لا تعادلها إلا خرافيّة نهاية التاريخ؛ فليس هناك انتصار كامل حاسم، ولا هزيمة كاملة مبرمة، وليست هناك بدايات تُنهي ما سبق إنهاءً كلّياً، أو نهايات يمضي معها الماضي غير مأسوف عليه إلى غير رجعة.
جنازة ملكة بريطانيا إليزابيث، وتتويج نجلها تشارلز ملكاً، وسط جماهيريّة صارخة وطوعيّة، أشارا إلى قصور ما سمّاه الناقد البريطانيّ رايموند ويليامز «آيديولوجيّة مترسّبة (residual ideology)»، قياساً بالوعيين «المسيطر» و«الناشئ». إنّ الأمر أكثر كثيراً من مجرّد «تأثير» لا تزال تملكه الممارسات الثقافيّة القديمة على المجتمعات الحديثة.
ما من شكّ في أنّ هذه العودات والانبعاثات قابلة للردّ إلى عوامل عدّة ومتداخلة، ودائماً هناك عوامل عدّة ومتداخلة وراء الظاهرات السياسيّة، (وإن مال كثيرون إلى مصادرتها وردّها إلى عامل واحد، كثيراً ما يكون «مؤامرة»، وغالباً ما تكون «المؤامرة» أميركيّة أو صهيونيّة).
هكذا لم يعد جديداً أن يقال بحقّ إنّ جزءاً كبيراً من المسؤوليّة عائد إلى توزيع الثروة في عالمنا الراهن، أكان داخل البلد المعنيّ نفسه، أم فيما بين بلدان العالم. وبالمناسبة، فإنّ إيطاليا التي شهدت آخر أحداث الانبعاث الماضويّ الكبير، مَثَل معبّر عن التفاوتين هذين. والحال أنّ الأمر هنا مزدوج الأسباب؛ إذ من جهة هناك السياسات النيوليبراليّة الجائرة التي تحوّلت إلى ما يقارب العقيدة الدينيّة، ومن جهة أخرى، هناك الفقر الذي ينشأ عن تحوّلات اقتصاديّة واجتماعيّة كبرى، على ما فعلت الثورة الصناعيّة بالأمس، وما تفعله العولمة اليوم، لكنْ هناك أيضاً الضعف التكوينيّ لبعض الدول؛ أكان فيما يتعلّق باعتماد الديمقراطيّة السياسيّة، أم فيما يتّصل بالرأسماليّة واقتصاد السوق. وربّما كانت روسيا الحديثة أوضح النماذج فيما يدلّ على هذه الإعاقة المديدة حيال ظاهرات الحداثة: فالرأسماليّة تحوّلت، على يد بوريس يلتسين، إلى نظام أوليغارشيّ فاسد ومُتداعٍ، بعدما تحوّلت الاشتراكيّة، بوعودها الكبيرة لعام 1917، إلى نظام توتاليتاريّ بلغ ذروته مع جوزيف ستالين.
وإذا صحّ أنّ التاريخ ليس مجرّد فعل إراديّ، أو سعي بطوليّ؛ صحّ أيضاً أنّ أفعال الأنظمة الاستبداديّة والحروب الأهليّة التي تسبّبت معاً في انطلاق موجات اللجوء المليونيّ، كان لها دورها المؤكّد في هذا الخراب العظيم!
هذه الوجهة، بما فيها من أعمال ناجحة، ومن محاولات ونيات، تخوض اليوم حروباً شتّى في العالم... في حالات يأسها واصطدامها بالوقائع الصلبة، لا تتردّد في التهديد بالسلاح النوويّ. نرى ذلك في روسيا، كما في كوريا الشماليّة. أمّا في حالات ظفرها، فتتظاهر بالتكيّف مع مستجدّات العالم المعاصر وإذعانها لها، كما تفعل الحركات النيوفاشيّة في أوروبا، لكنْ كائناً ما كان الحال، يبقى إصلاح الديمقراطية، بجعلها أكثر مساواةً واشتمالاً، شرطاً شارطاً لتعزيز الولادات المستقبليّة وترسيخها، وللاطمئنان إلى قدرتها على الصمود في مواجهة التحدّيات المنبعثة من ماضٍ لا يمضي بسهولة...
بعد الحرب العالميّة الثانية، وفي مواجهة التحدّي الشيوعيّ في فرنسا وإيطاليا، قرّ الرأي على تثبيت الانتصار عبر إكسابه مضموناً اجتماعيّاً. هكذا بُنيت دولة الرفاه، وكان مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا. بعمليّة كهذه، أتيح للمستقبل أن يطمئنّ، وهو اطمئنان عاش عقوداً متوالية أربعة. بعد الحرب الباردة، اصطبغ الانتصار بالنيوليبراليّة، وباستعداد سخيّ لغضّ النظر عن باقي العالم، وعن تطلّعات شعوبه إلى الحرّيّة، كما إلى المساواة. هذا ما زاد في إضعاف المستقبل في مواجهة الماضي. والنوم على حرير الانتصار عجرفة لا يقتصر أذاها على المتعجرفين.