ليست منتمية لحروب الجيل الثالث أو الخامس، أو العاشر مما يتم التقول عليها، وليست حربًا بيولوجية بالمعنى الكوروني الراهيب، أو بالمعاني الفيروسية الفتاكة، لكنها حربًا من أجل رأب الأصداع، ولجم الجراح، وتأجيل الآثار الاقتصادية للحرب الروسية الأوكرانية الطاحنة.

لم يكن في الإمكان أبشع مما كان، ولم يكن مستحيلاً أن يتوقف الأمر عند هذا الحد، لكنها إرادة ما يسمى بالمجتمع الدولي «عقوبات على النفس قبل أن تكون على العدو الافتراضي»، مآزق ومآسٍ في عقر الدار قبل أن تلحق الأذى بالآخر غير الافتراضي، تضخم وركود هو الأكبر منذ عشرات السنين، داخل البيت العالمي «الصغير».

كيف يا ترى نعثر على الأمل المستحيل؟ وما هي المآرب الأخرى التي يسعى إليها البعض ولا يدرك أكثرهم تفاؤلاً استقامة الطريق؟

هي الحرب المستعرة بين أفضل الكوارث، وأقل المصائب، بين إيقاف التضخم، أو تحقيق النمو، حرب مستعرة من بين جميع الاعتبارات الأخرى، بين التضخم والنمو، بين أدوات السياسة المالية، وشقيقتها على مختلف أصعدة السياسة النقدية، بين الحكومات والبنوك المركزية، الأولى مسؤولة عن السياسات المالية، والثانية عن السياسات النقدية.

الحكومة البريطانية الجديدة أطلقت العنان للنمو كي يتقدم الصفوف، وتركت الزمام خاليًا من مروض للتضخم، لم ترفع الفائدة المصرفية لأن هم ليز تراس رئيسة الحكومة البريطانية الجديدة هو تحقيق النمو، قامت بخفض الضرائب على الناس والمؤسسات والشركات، انتهجت سياسة تخفيض تكاليف المعيشة والأعباء بأي شكل من الأشكال، وارتأت أن الوطن لم يعد بحاجة إلى تضخم جديد، ولا إلى سيولة يتم حبسها في البنوك، وكبح جماحها في ودائع مصرفية مغرية، استخدمت أدوات السياسة المالية باحتراف يخالفها فيها مناصرو غريمها العمالي العنيد.

الولايات المتحدة الأمريكية رفعت الفائدة المصرفية ولم تستعن بأدوات السياسة المالية، تركت الحرية كاملة للبنك الفيدرالي لكي يضع ما يشاء من سياسات نقدية بخصوص رفع الفائدة التي تجاوزت الـ4% لأول مرة منذ عشرات السنين ما بين المستهدف حتى تستقر الأوضاع والمتحقق على الأرض كي تهدأ الأسواق، ربما 2% أخرى سيتم رفعها على فائدة الفيدرالي الأمريكي خلال السنتين القادمتين.

هي منظومة نقدية تقوم على سحب السيولة الفائضة من الأسواق وزيادة المعروض من السلع، فتقل الأسعار ويُكبح جماح التضخم.

هي حرب شرسة لاعتبارين جديدين بين السياستين المالية والنقدية أو بين الحكومات والمصارف المركزية، هي حروب مواءمات وتباديل وتوافيق أكثر من كونها حروبًا من الأجيال التكنولوجية الطالعة، هي حروب اجتهادية بامتياز، وليست جهادية على الإطلاق، هي معارك ربما تقود إلى حرب عالمية رقمية على الورق، وليست إلى حرب عالمية تقودها طائرات القيامة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.

أزمة غذاء عالمي، أم أزمة اقتصادية أشمل وأكبر وأعم؟ هذا هو السؤال، يا ترى من سيكون المنتصر في حرب الحلول الاقتصادية المطروحة، السياسات المالية أم السياسات النقدية؟ والسؤال الأنكى والأمر، لماذا هي حرب؟ ولماذا لا يتم التعاون ويتحقق الخروج من العنق الضيق باستخدام السياستين معًا؟

السؤال وجيه لو أن الإنتاج يمكن أن يتضاعف في ظل الركود! ولو أن الفائدة التشجيعية يمكن أن تغري القطاعات الاقتصادية المريضة بالحصول على العلاج الشافي ولو كان مرًا، الأكثر وجاهة أن الطاقة غالبًا ما تخرج عن النص، وتغرد خارج السرب، سياساتها، وأسعارها، والعوامل الأمنية والاقتصادية والسياسية التي تتحكم فيها، الجنون غير القابل للعلاج، والتوتر الرافض للتهدئة، هي حرب من نوع آخر لا تسكت مدافعها، ولا ينصرف جنونها، ولا رابح فيها ولا خاسر ولا يحزنون.

روسيا أغلقت صنابير الحياة أمام أوروبا ردًا على العقوبات، لم يعد في الأنابيب مزيدًا من الغاز الطبيعي أو القليل منه، الشتاء القادم مزدحم بالأعاصير والعواصف والثلوج القادمة من القطبين «السائلين» دون هوادة بسبب الانبعاثات الحرارية الأكثر فتكًا بالكرة الأرضية من ذي قبل.

أوروبا لا تفكر في الرجوع عن العقوبات كونها تمضي في موكب العناد الأمريكي بلا تردد ودون تفكير، وروسيا ترى أن عدم الرد يعني إهانة لا تقبلها على كرامتها ولو حلت الكوارث بالكون المريض عن بكرة أبيه، إذًا هي أوانٍ غير مستطرقة، ولعبة موت بين الثعلب المكار والأسد الباحث عن مفر من داخل الثقب الحديدي الوثير.

إنها اللعبة الأخيرة بين اعتبارات اقتصادية بنفس دموي من قلب الحدث، وأي حدث!