لم نسمع عن استخدام القنابل الذرية في الحروب بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يقل أحد باستخدامها حتى هذا اليوم، بل إنها قد ساعدت في الردع وعدم قيام حرب كبرى كما كان الحال عليه في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، لكن ما حدث في الفترة القليلة الماضية أن هناك حديثاً حولها، ليس للاستخدام، ولكن احتمال الاستخدام، بل هناك من قد قال: إنها قد تستخدم في ضربات استباقية. هذا الحديث مهما كان فلا بد من التوقف حوله والحديث عنه، وفي الفترة القريبة جداً كان هناك حديث عن ردة الفعل التي يمكن استخدامها عندما تستخدم دولة أخرى ذلك السلاح الخطير، وما هي الوسائل المناسبة والمساوية لرد فعل ذلك الفعل.

كنا نتمنى أن نسمع عن الوسائل والطرق والأساليب التي يمكن استخدامها لعدم وقوع ذلك الحدث، وليس الاختيار لردة الفعل المناسبة، لأن الفعل وردة الفعل ستكون مدمرة على الطرفين مهما كانت محدوديتها، لأنها ستكون بداية استخدام سلاح كان محرماً على الإطلاق، لا سيما أنه أصبح متاحاً، وتوفرت أنواع مختلفة من هذا السلاح تكتيكية وتدميرية، وبهذا فإنه لو استخدم على نطاق محدود جداً، يبقى عملاً تدميراً سيئاً ولمدة طويلة، وقد يتجاوز حدود ذلك المكان إلى أماكن أخرى، والأخطر هو فتح الباب لاستخدام مثل هذا السلاح، مهما كانت قدراته ومحدودية.

عندما بدأ أبو مسلم الخرساني يدعو للدولة العباسية. وقبلها لإبراهيم بن محمد، ذهب الناس وراءه، وكان نصر بن سيار والياً على العراق في ذلك الوقت من قبل مروان بن محمد الأموي، الملقب بالحمار، ولم يكن بليداً حتى يلقب بذلك، ولكن فيما يقال إنه قد لقب بذلك لقوته على التحمل والصبر، ومن المؤكد أنه لم يكن أسوأ حكام بني أمية، ولكن ظروف زمانه كانت أقسى منه وأقوى، وقد كتب إليه نصر بن سيار يحثه على المدد، وأبلغه أن الأمر أخطر مما يتوقع، وأرسل إليه أبياتًا، قال فيها:

أرى خللَ الرمادِ وميضَ جَمْرٍ

ويوشكُ أن يكونَ له ضرامُ

فإنّ النارَ بالعودين تُذْكى

وإنّ الحربَ أولها كلامُ

إذا لم يطفها عقلاءُ قومٍ

يكونُ وقودَها جثثٌ وهامُ

لكن جواب مروان بن محمد له: يرى الحاضر ما لا يرى الغائب، فما كان من نصر ابن سيار إلا أن تدبر الأمر بما لديه، أما الخليفة مروان، فيبدو أن لديه ثورات هنا وهناك، منشغلاً بها، كما أن لديه مشكلات تتعلق بالجند وأعطياتهم، وغير ذلك من تدبير أمور الدولة مترامية الأطراف.

حقا الحرب أولها الكلام، عندما تستنفد القنوات السرية طاقتها، ويصبح العلن هو الطريق لإيضاح وجهة النظر، والتحدث عبر كل الطرق والوسائل المتاحة لطرح ما يمكن طرحه، فإن ذلك يعني أيضا تجنيد الأفكار والمواقف، وتهيئة الناس لأي حدث ممكن أن يحدث، ويجتهد كل جانب لإظهار البراءة من الخطيئة عندما تقع أمور غير مناسبة، وهذا في الواقع فن يحسنه السياسيون.

الشاعر الجاهلي الحكيم زهير بن أبي سلمى شاعر الحوليات، وصاحب المعلقة، حذر من إضرام نار الحرب وتأجيجها، ونصح بالسعي لفك فتيلها وترويجها، ورمى بين ثنايا قصيدته أبياتًا حكيمة ظلت خالدة يستشهد العقلاء بها، في تجنب الحرب وآلامها، حيث قال:

وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ

وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ

مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً

وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ

فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها

وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ

هذا ما يقوله الشاعر الحكيم، والسلاح المستخدم في زمانه سيف ورمح، لا يقتل عند استخدامه إلا آحاداً من البشر، ولا يضر ماء ولا شجر، ولا ينفع إلا إذا تقابل الخصمان وجهاً لوجه، والسيف يستوجب المقابلة، والرمح يحتاج إلى بضعة أمتار فحسب، ولهذا فتلك الحروب تحتاج شجاعة الرجال، وأيديهم في الرمي والضرب، وعقولهم في التخطيط، والقدرة على الحشد والتجنيد.

اليوم تغير الحال، وتوسع المجال، ومن لا يحسن الاختراع، افتقر وضاع، واستبدلت الشجاعة بالكياسة والنجاعة، وتم الاستغناء عن الأيدي والأذرع، بالزر والأصبع، فيمكن لفرد واحد أن يدمر مدينة كاملة يقطنها ملايين بضغط على زر، دون روية أو فكر، والنصر يتأتى بعد توفيق الله بكفاءة الآلة وقدرتها، وحسن اختيار المواقع المستهدفة، من الأهداف المختلفة.

الحرب أولها الكلام، وهذا ما ظهر وبان، وأعتقد أن العالم قادم على أمر جلل إذا لم يطفئ النار عقلاء هذا الزمان، فالخطأ اليوم لا يعوض لأنه خسارة للجميع فلا منتصر في الحروب بالأسلحة الفتاكة سواء كانت كيميائية أو نووية، ويكون الهلاك للأرض ومن عليها، وهذا يجعل أن خطأ واحداً يعني دماراً لا يبقي ولا يذر، حمانا الله وإياكم من سوء المآل، وتبدل الأحوال.