ليس السؤال هو ما الذي كان على الرئيس الفلسطيني أن يقوله في الأمم المتحدة، ولكنه سيذهب إلى كيف سيقوله. هذا يشمل الوقفة والأداء والإشارات، الخطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في الشأن الفلسطيني الذي يتكرر منذ عقود ليس مجرد نص مدقق أو خطبة معادة، هو أكثر تعقيداً من ورقة مكتوبة ومن استنساخ لموضوع متعارف عليه، هو أكثر من ذلك بكثير، وثمة متغيرات تنشأ وتتراكم وقضية لا تتوقف عن النمو والتشعب مثل شجرة خضراء وقاسية، الخطاب خارج الورقة أيضاً وليس فيها تماماً، مزيج من الحضور الجسدي وثقة العينين وطبقة الصوت، والكثير من المعرفة بمن يستهدفهم الخطاب ومسالك التأثير التي سيسلكها، وإدراك قوي بأن المنبر يقدم فرصة للتماس مع العالم الذي يعيش خارج القاعة.

في الإجابة عن السؤال الأول قال الرئيس محمود عباس أشياء كثيرة هامة ومؤثرة، تحدّث عن تدمير إسرائيل لحل الدولتين، تحدّث عن عمليات القتل والاستيطان وعن الأسرى وحمل صورة الأسير ناصر أبو حميد أمام العالم، تحدث عن مقابر الأرقام، وحمّل الاحتلال مسؤولية تعطيل الانتخابات، وطالب بحماية دولية وباعتذار بريطانيا وأميركا عن تسببهما باستمرار المأساة الفلسطينية... إلى آخر قائمة المطالب الفلسطينية، وسرد مقدمة تاريخية ضرورية، وربطها بالراهن للتذكير بمسؤولية المشاركين فيها، حتى لا تذهب رئيسة وزراء بريطانيا المتحمسة، مثلاً، بعيداً في الحديث عن العدالة وحقوق الإنسان والمبادئ والقيم وأشياء من هذا القبيل، أو أن يسترخي جو بايدن أكثر في شرح موقفه المبدئي من عدم قانونية الاستفتاء الروسي لأقاليم أوكرانيا الأربعة.

هذا مهم وضروري، أن نقول إننا نبدأ من هناك من سياسة بريطانيا وخيانتها للشعب الفلسطيني وتسببها في مأساته، وصولاً إلى تصريح بايدن حول "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" أمام صف طويل من جثث أطفال غزة الملفوفين بأكفان بيض، من جذور الصراع في نهايات القرن التاسع عشر وليس من اتفاقيات أوسلو في تسعينات القرن العشرين، حتى لا تتحول "أوسلو" إلى مرجعية.

ولكنه عاطفي، أداء الرئيس، هذا في الإجابة عن سؤال "كيف"، وفيه الكثير من التكرار والتشكّي أكثر مما تحتمل مأساة شعب لم يتوقف لحظة من أكثر من قرن بعقدين عن المقاومة، ويتعرض الآن لعملية خيانة، تكاد تكون شاملة، ذات غاية وحيدة، هي تصفية قضيته الوطنية تحت ذرائع مختلفة، يكاد بعضها يكون مأسوياً إلى حد الضحك.

على نحو ما، كان يتضح بقوة في بعض فقرات الخطاب الطويل بدا أن الرئيس يخاطب شعبه، وأن الشأن الذي يتحدث فيه يذهب نحو الحوار الداخلي القائم بين الفلسطينيين، أكثر بكثير من ذهابه نحو الجالسين في القاعة، رغم أنه لم يأت على جهود استعادة الوحدة وإنهاء الانقسام، واختصر خياراته عندما أرهق الخطاب بوعد "لن نحمل السلاح". كان هناك تداخل في تحديد المتلقي، وكان الخطاب ينتقل بين القاعة وشوارع الضفة كما لو أن مونولوجاً داخلياً يضفي هيئة استغراق عميق على وقفة الرجل الثمانيني المثقل بالذاكرة والراهن معاً، هذا الاستغراق الذي وسم الخطاب منحه شيئاً من شفافية اليأس، حتى تلك الفقرة التي تذكّر فيها رفاقه الغائبين وعقود المسيرة الطويلة التي وصلت به إلى "هنا" حيث يقف، بدت مثل اعتراف غامض، أو شهادة صافية "لقد حاولت".

في منطقة ما من الخطاب كان مؤثراً وواضحاً، وكان شخصياً إلى أبعد الحدود.
في الحديث عن "اليأس" يمكن استعادة خطاب ياسر عرفات بعد عودته من "كامب ديفيد" إلى رام الله في تموز (يوليو) 2000 بعد ماراثون مفاوضات مع إيهود باراك والرئيس الأميركي بيل كيلنتون، كان عرفات "يائساً"، على نحو ما، من إمكان الحصول على مطالبه التي تمحورت حول قضايا الحل النهائي، القدس على وجه الخصوص، وبدا أن ذلك اليأس تحول إلى محرّك هائل لتحريك التوازنات على الأرض، كما فعل بعد الخروج من الأردن وبعد الخروج من لبنان، وبعد حصار طرابلس وانشقاق حركته بدعم من نظام حافظ الأسد.

كان ذلك الخطاب بنبرته العالية ومطالبه التي تجاوزت "أوسلو"، الشرارة التي ستُعرف في ما بعد بـ"الانتفاضة الثانية"، سقط باراك كما خطط عرفات، ولكن حماس قفزت على أكتاف الانتفاضة، كما يفعل الإخوان المسلمون دائماً، ودفعتها بعيداً من حواضنها الشعبية عبر "العسكرة"، فقد عرفات السيطرة على اندفاع السلاح، ثم جاء اعتقال القائد الفتحاوي مروان البرغوثي الذي أعاد بناء حركة "فتح" وتنظيمها وتوحيد أذرعها وانتخاب قياداتها الميدانية، رغم معارضة أعضاء من مركزية الحركة، تفاقم الأمر بعد اعتقال البرغوثي ولم يتمكن عرفات من بناء موقف سياسي على منجز الانتفاضة، سيستغل شارون الفوضى والإرباك وسينتهي الأمر باحتلال الضفة من جديد وضرب حركة "فتح" بعد اعتقال قائدها وحصار رئيسها عرفات.

حتى في تلك اللحظات التي كانت الميركافا تهدم الجدران حول سريره، كان عرفات شجاعاً في يأسه وعزلته.

المفارقة، وهي تحدث دائماً بطرقها الخاصة، أن "فتح" الحركة التي يقودها "أبو مازن" تتجاوز أزمتها، وتشهد نهوضاً على يد جيل جديد ولد في أغلبه بعد الانتفاضة الثانية في عشريتي الانقسام واليأس، وهي تستعيد حضورها في حواضنها وتتعافى بقوة بعدما مكثت طويلاً في ظل السلطة، وأنها تبني قياداتها من القواعد في استعادة لدور كان لها دائماً.

لم يكن الصراع الفلسطيني مع الحركة الصهيونية سهلاً في أي وقت، ولم تكن هناك توازنات يمكن أن تحسب لمصلحة الفلسطينيين في أي مواجهة، ولكن اليأس بمعناه الشعبي لم يكن موجوداً أيضاً.
ثمة فرق بين "يأس" و"يأس"، بين أن تحول الأمر إلى شكوى وبين أن تحوّله إلى محرك.