أمس، أعلنت مصادر في الإدارة الأميركية أن مسؤولين فيها أبلغوا الكونغرس أن الاتفاق النووي وصل إلى حائط مسدود، وذلك رغم أن الناطق باسم وزارة الخارجية كان قد كرر التزام واشنطن مواصلة التفاوض لإنقاذ الاتفاق الموقع عام 2015. لا بل إن الناطق قال إن المفاوضات لإحياء الاتفاق لا علاقة لها بالحوادث التي تشهدها إيران، على خلفية التظاهرات التي تعم مدنها احتجاجاً على قتل الفتاة مهسا أميني. ولا شك في أن تعثر مفاوضات إحياء الاتفاق النووي يحول دون تمكن النظام الإيراني من استعادة عشرات مليارات الدولارات المجمدة في مصارف أجنبية، ومن أن يتطلع مع رفع العقوبات إلى إمكان تحصيل النظام ما يقارب تريليون دولار من الأموال خلال الفترة المتبقية من عمر الاتفاق الأصلي.

هذا الأمر يريح القوى التي تعارض إحياء اتفاق تعتبره في الأساس ضعيفاً، وقصير المدى مع بدء رفع القيود التدريجي عن البرنامج النووي، وصولاً إلى تحرير إيران من أي قيد في ما يتعلق ببرنامجها بحلول 2031. لكن غياب أي اتفاق كان يطلق في مكان آخر يد طهران في انتهاك بنود الاتفاق، إذ إن مستوى تخصيب اليورانيوم وصل إلى خط الاستخدام العسكري، إضافة إلى مضاعفة عدد أجهزة الطرد المركزي من الجيل المتقدم العاملة في المنشآت النووية.

وغياب "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" عن مراقبة الانتهاكات، لا سيما بعد تفكيك كاميراتها المنصوبة في المنشآت النووية، مؤداه أن تصبح إيران طليقة اليد في الذهاب مباشرة نحو عسكرة كاملة للبرنامج النووي. ولا يخفى على المراقبين للملف النووي الإيراني أن هدف طهران الحقيقي هو بلوغ مرحلة تتمكن فيها من تصنيع القنبلة النووية، لتدخل نادي الدول النووية وتعتبر نفسها محمية من أي تدخل خارجي مستقبلي يمكن أن يتهدد مصير النظام نفسه. بمعنى آخر، إن القنبلة النووية هي في نظر أركان النظام، وفي مقدمتهم المؤسسة العسكرية التي يتربع "الحرس الثوري" على رأس الهرم فيها، ضمانة لبقاء النظام. ولعل الحوادث التي تشهدها إيران منذ قيام "شرطة الأخلاق" في طهران بقتل الشابة مهسا أميني في السادس عشر من الشهر الجاري، بسبب عدم لبس الحجاب كما يجب، بالتقاطع مع حوادث العراق مع بدء تشقق الصف الشيعي بين موال لإيران ومطالب بالتخلص من التبعية لها، تدفع النظام في طهران إلى مزيد من التشدد، وخصوصاً أن ما يشهده العراق، وهو بواية إيران نفسها، فضلاً عن رد فعل الشارع الإيراني على قتل مهسا أميني، وتمدد تظاهرات الاحتجاج إلى عشرات المدن الإيرانية، مع تحولها منذ الليلة الأولى إلى تظاهرات ضد النظام نفسه، ليست تفصيلاً.

فقضية مهسا أميني لم تقف عند حدود الاحتجاج على قمع بوليسي، بل تطورت لكي تصبح قضية معارضة شعبية لنظام الجمهورية الإسلامية برمّته. ومن يتابع بدقة ثورة العنصر النسائي ضد فرض لبس الحجاب، سريعاً ما يدرك أن القضية أكبر من الحجاب، وأنها تتعلق، ليس بالبعد الديني، أو الثقافي وحدهما، بل أيضاً بالبعد السياسي الأيديولوجي للنظام. ثمة جيل في إيران يلفظ مؤسسة الجمهورية الإسلامية وينزل إلى الشارع، معتبراً أنها لا تنتمي إلى العصر، ولا تعكس طموحات ملايين الإيرانيين.

في العراق انتفاضة ضد الهيمنة الإيرانية عبر أدوات محلية، في مقدمته القوى السياسية المنضوية في "الإطار التنسيقي" والتي تملك قوى عسكرية في إطار ما يسمى "الحشد الشعبي". والحشد الشعبي هو عملياً ميليشيات عراقية مذهبية تابعة لـ"الحرس الثوري" الإيراني، وتأتمر بأمر طهران في القضايا الجوهرية، تماماً مثل "حزب الله" في لبنان الذي تترك له هوامش محلية يعمل ضمنها، أما القرارات الكبرى فتتخذ في طهران. والحال أن هيمنة "حزب الله" في لبنان تواجه تحدي فشل التسوية الرئاسية التي أوصلت حليف الحزب المشار إليه الجنرال ميشال عون إلى سدة الرئاسة، وانتهى العهد الرئاسي بكارثة وطنية شاملة سياسية، مالية، اقتصاية واجتماعية، ما أضعف وضعية "حزب الله" كطرف مسيطر على الساحة اللبنانية من دون أن يسقطه.

لكن المهم اليوم هو ما يحدث في إيران نفسها. فإذا تمكن النظام من إطفاء شعلة الثورة ضده بالحديد والنار، فإن المشكلة ستظل كامنة. أي أن النظام شاخ وترهل من دون أن يتمكن من تقديم أجوبة مقنعة لتسعين مليون إيراني بشأن مستقبل العيش في ظل حكم ثيوقراطي متخلف. وهو قد يكون في طور التحول إلى ديكتاتورية عسكرية بعد أن يغيب المرشد الحالي علي خامنئي. وإذا ما أضفنا إلى اهتزاز الأرض من تحت أقدام أركان النظام في إيران، الحالة الرافضة للهيمنة الإيرانية على العراق، أمكن القول إن المشروع الإيراني يهتز، وقد يدخل في المدى المتوسط غرفة الإنعاش باعتبار أن الاهتزاز في إيران والعراق ينعكس حكماً على باقي الساحات التي تلعب فيها إيران، من سوريا إلى لبنان وغزة فاليمن. في الأثناء، وفي انتظار التغيير الكبير، من المهم بمكان منع طهران بكل الوسائل الممكنة من الاستحواذ على القنبلة النووية.