المعهد الجمهوري الدولي في واشنطن نظّم حلقة نقاشية مغلقة الأسبوع الماضي في دبي، حضرها مجموعات صغيرة من مواطني بعض دول الخليج من الجنسين، استمرت يومين، ما سوف يأتي ليس بالضبط نقلاً مباشراً لتفاصيل ما قيل في الندوة من نقاشات، هو انطباعي الشخصي ومبني على قاعدة «تشاتام هاوس» المعروفة، أي لا ينسب لقائل قول مباشر. فكرة الندوة المغلقة هي التعرف من مجموعة خليجية منتقاه من جانب المعهد على الاستراتيجيات الوطنية لمشاركة المواطنين الخليجيين في الشأن العام، والأشخاص الذين دُعوا كانوا من انتقاء إدارة المعهد.

حاضر في المجموعة ثلاثة «خبراء» أميركان عن بعد، ثم دار نقاش موسع مع «قيادات المجاميع الصغيرة من باحثين من الجنسية الأميركية» كانوا منسقين للجلسات وإدارة الحوار.

انطباعي أن الدافع الرئيسي ربما (لا أدخل في النيات)، أن هناك قلقاً من بعض النخب الأميركية المهتمة بالسياسات الخارجية حول افتراض أن تذهب دول الخليج إلى «أطراف أخرى» في ساحة الحرب، والتي تكاد أن تكون عالمية الدائرة اليوم في أوكرانيا.

الافتراض قائم على أساس أن «الغرب» عموماً قد استمر في «إعلاء قيم حقوق الإنسان»، وهو أمر ليس «مهضوماً» في الخليج؛ ولذلك فإن الخيار بين ثلاثة أنظمة (نماذج) هي النظام الليبرالي (الغربي - الأميركي) المصرّ على «حقوق الإنسان والحريات»، والخيار الصيني (الكفاءة والاستحقاق)، والنموذج الروسي (الرجل القوي)، فإن دول الخليج ترغب أو تميل إلى أن تتعاون مع النموذجين «الشرقيين» بدلاً من «النموذج الليبرالي» الغربي. طبعاً هو افتراض ربما استفزازي، ولكن من قال به مقتنع به!

هذا الافتراض تمت مخالفته، على أساس أن ذلك التصور ليس قريباً من الحقيقة؛ فالشعوب في الخليج مهتمة بالحريات وحقوق الإنسان، والنموذج المتبع في الاقتصاد والحياة الاجتماعية والقانونية هو النموذج الغربي، على ما يمرّ به في بيئته من عقبات وتحديات مشهودة.

ربما في قاع ذلك الافتراض محاولة للدفع النفسي (الإنذاري)، إنكم يجب «أن تكونوا معنا» وإلا فإن حرياتكم ستكون مهدّدة!

عورض ذاك الافتراض، وكان طبيعياً أن يعارَض، مع التأكيد أن فكرة «إعلاء الأولويات الأميركية» على أولويات دول الخليج، كان لها تأثير مدمّر في السابق، ويجب ألا تتكرر، وضرب مثلاً بمقابلة الأمير محمد بن سلمان الجريئة والواضحة لجريدة «واشنطن بوست» الأميركية التي نشرت في 22 مارس (آذار) 2018، وقد ذكر فيها ما معناه «أن نشر الوهابية في مرحلة لم يكن لوجه الله، ولكن كان استجابة لمطالب أميركية»؛ ذلك الموقف الذي احتدم فيه الصراع بين المعسكر الاشتراكي (المحتل لأفغانستان) وبين المعسكر الغربي في ثمانينات القرن الماضي، لم يقابل إلا بالنكران من الإدارات الأميركية المختلفة، فبدأت في تشجيع الإسلام الحركي في أكثر من منطقة عربية، كما فعلت إدارة أوباما.

اليوم، المطالب تجددت مع حرب روسيا في أوكرانيا، ومن جديد واشنطن تصرّ على وضع أولوياتها هي في المقدمة على حساب أولويات الآخرين، حتى من الأصدقاء، وتغلف ذلك التوجه بشعارات لها بريق.

تضخيم لجوء الخليج إلى نموذج الصين أو روسيا يشتمّ منه محاولة توجيه بشكل ما، أن الخيار هو ما بين الحرية وبين الشمولية! وهو قراءة خاطئة للواقع في دول الخليج، وتجاوز لفترة طويلة من الصداقة والتعاون مع الولايات المتحدة ومع الغرب.

في هذه الفترة بالذات في مرحلة «جوع الطاقة» الغربي، وتعاظم التضخم ودخول الدول الأوروبية في أزمة اقتصادية، كانت دول الخليج هي الملاذ، وربما المنقذ جزئياً من أزمة الطاقة القائمة في أوروبا، ربما دون رضاء من الاتحاد الروسي. فهذه المنطقة تثبت من جديد موقفها التاريخي، حيث رفعت الطاقة الإنتاجية لتلبية حاجات السوق الغربية.

أولويات الخليج هي الأمن الإقليمي، والتهديد يأتي من نظام الجمهورية الإسلامية، مع التأكيد أن لا أحد في الخليج (ناساً ومؤسسات) لديهم عداء مع شعوب إيران، فهي شعوب تناضل بطريقتها لنيل الحرية وتأكيد حقوق الإنسان، كما أن ما يحدث في إيران «شأن إيراني» له علاقة بشعوب إيران، أما ما يهمنا فهو سوء المنقلب للتدخل السلبي الإيراني الذي يقوم به النظام في كل من سوريا والعراق ولبنان واليمن، ودول أخرى، وما هو مستنكر من هذا النظام محاولاته الدؤوبة على خلق الكثير من الاضطراب في هذه الدول، وتجنيد مواطنين فيها مغرر بهم في مشروعه الانقلابي، ذلك أمر معروف للكافة، وهو هاجس خليجي؛ لأنه متعلق بأمن الدول والمجتمعات.

ذلك التدخل المبني على قاعدة كان نادى بها السيد الخميني تقول «تهران نيست بغداد نيست إسلام هست»! هذه الفكرة قامت عليها استراتيجية «التسلل الناعم» في دول الجوار.

أي لا توجد أوطان مستقلة مدنية، إنما توجد «أمة إسلامية» قيادتها في طهران! وعلى إيران واجب السيطرة على الإقليم، وقد ثبت ذلك الشعار في الدستور الإيراني مرعي التطبيق.

ذلك الشق من السياسيات الذي يزرع الشكوك في دول الخليج غير مهتم بها في واشنطن، فلم تُدع دول الخليج للمشاركة في مفاوضات النووي، ولم يسمع لشكواها حول التدخل الإيراني الواسع النطاق في دول عربية أي آذان.

عدد من دول المنطقة ما أن تمكّن منها التدخل الإيراني، حتى غدت الدولة فاشلة وعنيفة وفقيرة يموت أبناؤها في قوارب الهجرة، كما في الأقاليم العربية التي استطاعت طهران أن تقضمها كلياً أو جزئياً.

ومع أن النار تحت الرماد في إيران في الأسابيع الأخيرة، جزئياً نتيجة صلف السياسات المتبعة في الداخل وفي الجوار لا يسمع للإعلام الغربي أو للسياسيين صوت عالٍ، على الرغم من العدد الكبير من الضحايا وقد تقوم طهران بتصدير المعضلات التي تواجهها إلى الإقليم المجاور.

لقد تبيّن من ثورة الحجاب القائمة، أن الصراع هو ليس بين المذاهب، كما استمرت الدعاية الإيرانية ببثه في صفوف بعض العرب، الصراع حول الدولة المدنية، التي تشق طريقها في الدول المجاورة بنجاح، وتتعثر تحت شعارات الدولة الدينية في إيران! مقاومة المشروع الإيراني في الجوار هي الاستراتيجية الوطنية الخليجية.

آخر الكلام:
سوف تبقى المحاولات من مراكز الدراسات الأميركية تدفع في وجوب التحيز إلى طرف دون آخر، مع تجاهل أولويات الإقليم، من جديد ذلك يحتاج إلى تفعيل الاتصال والاشتباك مع تلك المراكز.