حدث ما كان متوقعاً في الجلسة الأولى لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان. تطيير النصاب يشير إلى أن إنجاز الاستحقاق يحتاج إلى وقت طويل من ضمن الصراعات القائمة بين القوى السياسية والطائفية في البلد، وقد يُمدد إلى ما بعد انتهاء المهلة الدستورية للانتخاب قبل 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2022، أي انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال عون. وقد لا تكون الأيام العشرة الأخيرة من المهلة حاسمة في عملية الانتخاب، عندما يتحول مجلس النواب هيئة ناخبة في إمكانها عقد جلسات الانتخاب من دون دعوة من رئيس البرلمان نبيه بري. وما لم تحدث تطورات إقليمية ودولية تضغط للاتفاق أو التسوية على اسم نهائي للرئاسة، فلن يكون ممكناً للقوى الداخلية، موالاة ومعارضة، بما فيها "حزب الله" رافعة قوى الممانعة، إنجاز الاستحقاق.

دلّت مجريات الجلسة الانتخابية الأولى لانتخاب الرئيس اللبناني على مجموعة من الأهداف، وكان واضحاً أن ترشيح اسم ميشال معوض للرئاسة تتقاطع أهدافه مع قوى في الداخل والخارج، لكنه لا يشكل نقطة التقاء على مستوى القوى الطائفية المقررة في السلطة، فـ"حزب الله" هو أبرز المعترضين والرافضين لترشيح معوض، وهو ابن الرئيس رينه معوض الذي اغتيل في 1989 كأول رئيس للجمهورية بعد إقرار اتفاق الطائف، ولذلك يعتبره الحزب مرشح أميركا الأول واسماً تتبناه السعودية، وذلك على رغم رمزيته التي تشير إلى التمسك باتفاق الطائف كمرجعية لاختيار الاسم وانتخاب الرئيس، خصوصاً أن البيان الفرنسي – الأميركي - السعودي الأخير أكد هذه الوجهة لإنجاز الاستحقاق.

انتهاء جلسة الانتخاب بتطيير النصاب، ودعوة الرئيس نبيه بري إلى التوافق بين الجميع على مرشح واحد، كي تنعقد جلسة جديدة، يؤشر إلى عمق الأزمة والصراع الداخلي وامتداداته الخارجية، ويطرح احتمال أن يدخل لبنان في الفراغ الرئاسي بعد انتهاء المهلة الدستورية، وعودة التركيز على ملف الحكومة المعلق الذي سقط بارتفاع شروط جديدة للرئيس ميشال عون وصهره رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل الذي تراجعت أسهمه في الوصول إلى الرئاسة كخليفة لعون. حتى أن "حزب الله" المربك في هذا الملف، لم يستطع إعلان موقف صريح وحاسم لاسم مرشحه، لا بين باسيل ولا رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية، في وقت توحدت قوى الممانعة أو ما يسمى بالموالاة خلف الورقة البيضاء ككتلة متراصة مع 36 صوتاً. واللافت أن ليس كل قوى المعارضة أو ما يُعرف بالسياديين والتغييريين يدعمون ميشال معوض الذي نال في الانتخاب الأول 36 صوتاً، وهذا مؤشر سلبي لا يمكّنه من حصد مزيد من الأصوات لتبوّء منصب الرئاسة.

أزمة انتخاب الرئيس اليوم تختلف كما البلد عما كانت عليه الأمور قبل عام 2016. بقي لبنان لمدة سنتين بلا رئيس بين 2014 و2016، على رغم أن الأكثرية النيابية كانت لـ"حزب الله" وحلفائه. تعطّل الاستحقاق الرئاسي في وقت كانت المفاوضات النووية تصل إلى خاتمتها، مع توقيع الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران والدول الست في 2015، ما انعكس على الأوضاع اللبنانية عندما كان هناك اسم وحيد للرئاسة هو ميشال عون، كمرشح فُرض فرضاً، فحصل الانتخاب في 2016 بمثابة التعيين، وحظي بتأييد "القوات اللبنانية" و"تيار المستقبل" برئاسة سعد الحريري، وبذلك حدث التراجع في موقف هذه القوى، إلى أن انتهى دور تيار الحريري بانسحابه من الحياة السياسية، وتمكن تحالف "حزب الله" وعون من الإمساك بالسلطة طوال السنوات الست الماضية، حيث حدث الانهيار الكبير في البلد اقتصادياً ومالياً، لتنتهي تجربة الرئيس القوي و"الطرف" بكارثة للبنان ليس من السهل النجاة منها.

تختلف الصورة اليوم وفق التوازنات الجديدة التي أنتجتها الانتخابات النيابية الأخيرة، لكن لا يبدو أنها حاسمة في اختيار الرئيس الجديد كمدخل إنقاذي للبنان من أزمته. ففي الجلسة الأولى لانتخاب رئيس للجمهورية، لم تظهر مبادرات إنقاذية يندرج الاتفاق حولها على اسم الرئيس وانتخابه من ضمنها، وإن كان بعض القوى ثبّت سياسياً خلفية اتفاق الطائف، بصرف النظر عما إذا كان ميشال معوض يعبر عن هذه الوجهة أو لا، إلا أن الأمور ذاهبة إلى اصطفافات جديدة في ظل العجز عن إنتاج توازن سياسي بين المحورين "السيادي" و"الممانع"، وخصوصاً أن 36 نائباً صوّتوا لمعوض لا يستطيعون تثبيت ثلث معطل للتوافق على تسوية رئاسية مستقبلية، وأيضاً في مواجهة قوة "حزب الله" الذي يبدو أنه تمكن في الجلسة الأولى من حشد 63 نائباً صوّتوا بالورقة البيضاء، وذلك على رغم الخلافات بين قوى الممانعة على مرشح رئاسي من بين الأسماء المتداولة.

بين قوى الممانعة وضع جبران باسيل المرفوض من الأكثرية، فيتو على اسم سليمان فرنجية، لكن هذا الأمر قد يتغير إذا تم التعويض عما يطالب به عون في موضوع الحكومة والرئاسة من ضمانات لـ"التيار الوطني الحر" ولصهره باسيل تحديداً، وإذا حدثت تطورات إقليمية ودولية أنتجت تسوية للوضع اللبناني، مرحلية أو تأسيسية جديدة قد تغيّر من معادلة الصيغة اللبنانية. وفي المقابل، لا يبدو أن القوى السيادية والتغييرية متفقة على الوجهة العامة لاختيار الرئيس، لذا يبدو أن طرح اسم ميشال معوض له أهداف تتخطاه في المسار السياسي العام لهذه القوى، وفي مقدمها "القوات اللبنانية" التي تريد تثبيت كلمتها في الساحة المسيحية، وإن كانت غير قادرة على إيصال رئيس تختاره بنفسها.

تبقى هناك أسماء مطروحة لمرحلة مقبلة، كاسم صلاح حنين الذي لم يدخل شخصياً في بازار السجالات والتجاذب، وكذلك اسم قائد الجيش جوزف عون، الذي يبدو أنه حتى الآن لا يحظى بتأييد كامل من القوى على المقلبين. لكن الاسم هو آخر ما يمكن حسمه إذا جرت الأمور وفق مسار مختلف من التسوية، إن كان إنقاذياً أو بفعل تدخل دولي وإقليمي حاسم، وفي هذا السياق يظهر أن انتخاب الرئيس معلّق بحسابات لدى الدول المقررة في الشأن اللبناني، حيث يحسم "حزب الله" من ضمن حسابات إيرانية أن لا تسليم لتسوية أو رئيس من دون موافقته كمقرر في هذا الاستحقاق من بين استحقاقات أخرى يستخدم فائض قوته لحسمها.