يفتقد وصف وضع «الموالاة» بالتشرذم إلى الدقة. فقد أثبتت 63 ورقة بيضاء في جلسة التصويت التجريبي لنواب الأمة أن هذه «الموالاة» قادرة على توحيد موقفها أكثر مما فعلته «المعارضات».

أكثر من ذلك، حملت هذه الأوراق استفتاءً وإحصاءً واستطلاعاً لخريطة التحالفات في صفوف النواب، وبروفةً لما يمكن أن تأتي عليه نتيجة انتخاب رئيس للجمهورية، عندما يستقر رأي الحاكم بأمره على من سيُنَصِّبه رئيساً، ويرغم ما من يستطيع أن يرغمه من بين الكتل المعارضة على الانصياع... اللهم إلا إذا اتفقت «المعارضات» على توحيد توجهها لاختيار مرشح بعينه بأغلبية 65 بعد تأمين النصاب، لأكثر من جولة تصويت، لتتمكن من فرض رئيسٍ سيكون حتماً لبنانياً أكثر من أي شخصية ستفرضها الأجندة الإيرانية لاستكمال مشاريعها في لبنان.

والمؤسف أن البروفة بيّنت أن هذا الحاكم يقود اللعبة باحتراف ومهارة، لذا هو واثق من قدرته على فرض قراره، حتى على «المعارضات»، وأن كل ما يلزمه هو اختراقها بعدد بسيط من النواب أصحاب الموقف الرمادي، حتى ينجح في مسعاه.

بالتالي، الأوراق البيضاء ليست بيضاء على الإطلاق. لذا فإن الحبر السري الكامن في فراغها ممكنة قراءته. وأحرفه غير المرئية تشير إلى الانضباط والالتزام اللذين تواظب عليهما المنظومة الملحقة بالحاكم بأمره.

وواضح أن الاستحقاق الحالي يختلف عن استحقاق فرض إيصال الرئيس ميشال عون. ذلك أن اسم الرئيس العتيد لا يزال أسير الحبر السري. أي اسم يصبح هو الرئيس المطلوب، عندما تنتفي الحاجة إلى السيناريو القاضي بمزيد من التأزيم للوضع اللبناني بغية تلبية متطلبات المشروع الإيراني... أو عندما تتطلب مزيداً من التأزيم... حينها يمكننا توقع ما يصعب توقعه واعتباره مستحيلاً... وحينها ينتهي الصراع بين المسترئسين سليمان فرنجية وجبران باسيل، فالحاكم بأمره قادر على حسمه عندما يريد.

ولأن الحاكم بأمره لم يحسم قراره بعد بإنهاء فصول الأزمة، وليس باختيار اسم الرئيس، لن تكون الفترات بين الدعوات المتقطعة إلى جلسات قد لا تشهد اكتمال النصاب، هي فرصة لتحسين الشروط وتحصين المواقع على طاولة التسوية بغية التوصل إلى «رئيس توافقي»، وانما ستكون فترات انتظار حتى تأتي الأوامر من رأس المحور بأن تتم صياغة التسوية وفق ما يناسب مصالحه.

لذا تم تعطيل النصاب بعد جلسة التصويت التجريبية، وتولى رئيس مجلس النواب نبيه بري إفهام المخضرمين والمتمرسين والمبتدئين في صفوف «المعارضات» أنه، وبصفته المتحكم بالدعوة إلى المزيد من جلسات التصويت، فإنه يشترط «توافقية قهرية»، وإلا سيبقى سيد الموقف فراغ ممتلئ بكل السيناريوات التدميرية التي تنكل بالمواطن وتجعل شظف العيش أقل أضراره.

ولنا ان نتسلى بعد هذه «الهمروجة» بتعقيدات تشكيل الحكومة التي ستتولى السلطة مجتمعة في ظل شغور قصر بعبدا من رئيس للجمهورية. ولنا أن نتوقع هزات أمنية واقتصادية لزوم تطويع الداخل والخارج وخلط الأوراق ومن ثم إعادة غربلتها، حتى يحين موعد الصفقات الكبرى التي تأخذ المسائل الصغرى، كالمسألة اللبنانية، على البيعة.

بهذه البساطة يتصرف الحاكم بأمره في هذا الاستحقاق، ما دام مسيطراً من خلال النصاب على المعطيات التي توافقه وتصب في صالحه.

وبهذه البساطة كان ينبغي «للمعارضات» أن تختزل خلافاتها وتبايناتها حتى تصبح «معارضة» وتجمع جهودها للتوصل إلى قاسم مشترك وصلب يشجِّع على تواصل منتج بين القوى المحليّة والاقليميّة والدوليّة لمواجهة وحدة الأوراق البيضاء.

لكن هذا الأمر لم يحصل. والسبب يعود إلى أن حسابات «المعارضات» كان يجب إجراؤها قبل الانتخابات النيابية. حينها كان يمكننا أن نتخيل مجلساً نيابياً لا يتحكم بنصابه الحاكم بأمره. أو يمكننا أن نحلم باستدراك هذا الخطأ في الانتخابات المقبلة مع ست سنوات، بحيث لا يؤدي الحبر السري للأوراق البيضاء مفعوله.