انقسم القول في جورجيا ميلوني وحزبها «أخوة إيطاليا» على خلفية الانتخابات التشريعية الأخيرة التي خرج فيها هذا الحزب منتصراً على رأس تحالف يجمعه بكل من «رابطة الشمال» بقيادة ماتيو سالفيني و«قوة إيطاليا»، حزب رئيس الوزراء الأسبق الممتلئ سجله بفضائح التهرّب الضريبي والاختلاس والذي يتربّع على إمبراطورية مالية وإعلامية ورياضية، والذي لا تكاد تراه يدخل الى السجن حتى يباغتك وقد عاد إلى مقاعد السلطة.

ومع أن التحالف الثلاثي أدرج نفسه في خانة «يمين الوسط»، إلا أنّ الوسطيّ فيهم هو برلسكوني ـ على نكباته، إذا ما قورن بالميول اليمينية القصوية لدى سالفيني وميلوني.

إلا أنّ الانقسام في المقاربة تعلّق بميلوني وحزبها، وصلة النسب ببنيتو موسوليني والحقبة الفاشيستية من التاريخ الإيطالي. بين من ذهب إلى تغليب النظر الى «فراتيللي ديتاليا» على أنّها متحورة من متحورات الفاشية الإيطالية التاريخية، وبين من استهجن ما رأى فيه مبالغة تعسّفية ومغالطة على مستويي المفهوم والسياق، رادّاً حزب ميلوني إلى واحدة من متفرّعات «الشعبوية» المتنقلة شرورها من ديمقراطية تمثيلية إلى أخرى، محدثة فيها تشوّهات ومبرزة ما يعتور مؤسساتها من علل، لكن من دون أن يكون لهذه الشعبويات ذات الطابع الانتخابي، لا النية ولا القدرة على انتهاج أي مسلك «توتاليتاري» من قريب أو بعيد.

وقد سبق لعالم السياسة ياشا مونك في كتابه «الشعب في مواجهة الديمقراطية» 2018 أن أدرج هذه الموجة الشعبوية في سياق انفكاك العرى التي تأمن جمعها في القرن بين الديمقراطية وبين الليبرالية، بين الاقتراع العام وبين النظام التمثيلي، وبين المؤسسات التي تتأتى بالانتخاب، وتلك الضرورية لاستتباب دولة الحق والقانون وفي طليعتها القضاء والتي لا ترتكز بشكل محوري على التنافس الانتخابي إنما هي الناظم والحامي لهذا التنافس. فذهب مونك الى أن الموجة الشعبوية تدخل في سياق الهجمة على مؤسسات دولة الحق / القانون لكنها لا تهدّد (بعد) الديموقراطية الانتخابية نفسها، بل هي تنطلق من المناداة بتطويع دولة القانون، للإرادة الشعبية المظهرة في الصناديق، بدلاً من جعلها مطية «للاستبلشمنت» و«النخب» التي يندّد بها الشعبويون، بالتوازي مع حملة الشعبويين العدائية في المقلب الآخر على الجماعات اللاحق بها التمييز، والتي يعتزمون إقصاءها عن الشعب، هذا الشعب الذي يبحثون له عن تجسيد في شخصية قيادية كاريزماتية ثرثارة.

فهل يقتصر أمر ميلوني وربعها على صنف من أصناف الشعبوية هذه، تلك التي لا سبيل لها خارج إدمان المعارك الانتخابية، فيصبر عليها لفترة ثم يستهلكها عدم الاستقرار السياسي المديد على الطريقة الإيطالية، فيهبط نجمها وتجد الناس سلوى سياسية لهم جديدة؟ أم أن في الظاهرة ما يحيل بالفعل، وبشكل جدي، إلى ما يتجاوز مجرد الحنين إلى موسوليني الذي لا يقتصر في إيطاليا على الفاشيين وحدهم، وقد سبق لبرلسكوني قبل سنوات بأن أعتبر الديكتاتور الذي أعدمته المقاومة الشيوعية عام 1945 على أنه لم تتلطخ يداه بأي قطرة دم!
لا ينفصل الانقسام حول درجة خطورة النتائج الانتخابية الإيطالية وجدية «المنحى الفاشي» فيها من عدمه عن حال العالم المضطربة اليوم، على خلفية صعود النزعات الهوياتية والشعبوية، وارتدادات الحرب الروسية لتفكيك أوكرانيا، والتراشق في هذه الحرب حول من هو الأقرب الى الفاشية والنازية. بين السردية الروسية التي تركز على الجناح الفاشي من الحركة القومية الأوكرانية، وعلى ماضي تعاون هذا الجناح مع الاحتلال الألماني النازي، وعلى غلبة هذا الجناح على القرار في أوكرانيا، ومراميه الاستئصالية للثقافة الروسية والروس الإثنيين فيها. وبين السردية المضادة، التي تركز على الظواهر القومية المتشددة، ذات الطابع الفاشي في المقلب الروسي، وعلى التشابه بين لحظة اجتياح موسوليني للحبشة البعيدة وبين لحظة اجتياح بوتين لأوكرانيا التي ينكر حقها في الوجود المستقل. تضاف البوتينوفيليا التي راجت لسنوات في صفوف اليمين المتطرف الأوروبي، وقد حيدت ميلوني نفسها عنها بعد انطلاقة الحرب الحالية، وشددت على الالتزام الأطلسي لبلادها، هذا في حين لا يخفي برلسكوني وسالفيني استمرارهما على الموقف «المتعاطف» مع بوتين!

لقد شهد العقد الأخير رواجاً غير مسبوق للتراشق بمصطلح فاشية، أكثر من أي وقت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. من الهند، الذي يُتهم الحزب القومي الديني «بهاراتيا جاناثا» أكثر فأكثر من لدن أخصامه ومنافسيه بأن له سمة فاشية، الى بولسونارو في البرازيل، المتهم من قبل يسارها بالفاشية، إلى تصنيف الراحلة مادلين أولبرايت لدونالد ترامب بأنه انذار بموجة فاشية فعلية، الى الأخذ والرد حول مصطلح «الفاشية الإسلاموية» وإذا كان ينطبق على الجماعات الجهادية، بل يتعداها الى الجماعات الأصولية غير الجهادية، الى شيوع هذا المصطلح من قبل المواجهين للأنظمة الأكثر بطشاً وتنكيلاً، كما في الحالة السورية. هناك شيوع غير مسبوق، وضعيف الإسناد الأكاديميّ له بالمجمل، لمصطلح الفاشية، بحيث لم يعد واضحاً ما بالمستطاع من بعد هذا الاستخدام المسرف والعشوائي للمصطلح أن يعنيه توصيف حالة ميلوني بأنها تمت إلى ماضي الفاشية بذي صلة لها وجه خطورة. في المقابل، شيوع المصطلح بهذا الشكل في العشرية الأخيرة يدفع الى التساؤل عن «رذاذ الفاشية»، عن أطيافها المتنقلة بين أقاليم العالم، وبالتالي الى التفريق بين الفاشية في زمانها، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وبين الفاشية العائدة شبحياً، وبشكل يتحايل على الضبط المفهومي، ويجعل حكماً للمبالغة في شأن تقدير ظهورها، فائدة «معرفية» لجهة الإظهار بأنها إن لم تكن موجودة، فهي غير غائبة تماماً. ما بين بين.
من جهتها، تنكر ميلوني أن ينطبق عليها تصنيف «ما بعد فاشية». هي التي انتظمت يافعة في «الحركة الاجتماعية الايطالية» التي شكلتها فلول الفاشية بالفعل بعد نهاية الحرب، والتي أطرت على موسوليني في غير مناسبة، كما أحيا فتية من حزبها قبل أعوام قليلة ذكرى «الزحف على روما»، أي الحركة التعبوية التمردية الانقلابية التي قادت موسوليني للاستيلاء على السلطة في أكتوبر 1922.. ويا لها من مصادفة أن تصل ميلوني عشية مئوية «الزحف» الأسطوري هذا إلى الحكم.
يبقى أن الفارق غير الثانوي أبداً هنا أن ميلوني «يمينية» ويصعب اختصار موسوليني بهذا الوصف. حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى كان من رموز الجناح اليساري من الحزب الاشتراكي الإيطالي. ندّد من موقع أممي باندلاع الحرب الكبرى، ثم تبدّل موقفه بعد أشهر قليلة، في مجرى خريف 1914 وأخذ ينظر الى أن دخول ايطاليا في الحرب ضد الامبراطورية النمساوية الهنغارية من شأنه فتح الطريق للثورة الاجتماعية، بدلا من أن يبقى الاشتراكيون يحلمون بالثورة ويكتفون بالمنابر البرلمانية. النتيجة أنه طرد من الحزب وانخرط في الحرب وأصيب وتحول الى رمز «لليسار التدخلي» في الحرب. وفي نهاية هذا الحريق الأوروبي اتضحت الأمور عنده أكثر، الثورة المرجوة عليها ان تكون قومية، وللأمة الأولوية على الصراع الطبقي، والتعاضد بين الطبقات ممكن اذا اعتمد منظار الأمة، واذا تجسد هذا المنظار في جيل مقاتل شاب، هو جيل المنخرطين في الحرب. الحرب العالمية هي ولادة الثورة القومية.
بهذا أخذ موسوليني ينتقل الى ما أصبح شيئا بعد شيء الفاشية في حركة متعرجة. بدأت بعد الحرب ببرنامج اجتماعي أنتي برجوازي لم يستطع منافسة المتحمسين في ايطاليا لنموذج الثورة البلشفية، وجرى الانتقال من ثم، في مواجهة المجالس العمالية الى برنامج نال ثقة البرجوازية والطبقات الوسطى، تحت شعار الدفاع عن الملكية الخاصة في وجه المصادرات العمالية. لكن الفاشية كانت لا تزال ظاهرة تكتسب معالمها تباعاً. نشبت الأزمة في نوفمبر 1921 حين تبين أن البرجوازية لم تعد بها حاجة الى العنف الفاشي ضد «الحمر» وتفضل العودة الى الوضع الاعتيادي لدولة القانون «الليبرالية». حينها مال موسوليني الى التكيف مع ذلك والالتزام بالعمل البرلماني، أي بمعنى آخر ان يصبح شبه جورجيا ميلوني اليوم، لكن قادة الفاشية عبر الأقاليم الايطالية تحركوا ضده، لثنيه عن استسلامه هذا، ولدعوته كي يكون زعيماً لحزب من طبيعة ثورية، يعمل على الاستيلاء على المؤسسات واقامة نظامه من خلالها. آذاك أصبح هو «الدوتشيه» وتأسس الحزب القومي الفاشي وجرى الاستيلاء على السلطة، ليس من دون استلهام النموذج البلشفي في الانقلاب كما يشدد على ذلك المؤرخ اميليو جنتيلي، فكان موسوليني هو «لينين الطبقات الوسطى» في وجه «لينين البروليتاريا»، هذه الطبقات الوسطى التي لم تقتنع مع البرجوازية العليا بأن الوقت حان للعودة الى «الدولة الليبرالية» على ما أشيعت تسمية النظام البرلماني ذي الرقعة المحصورة شعبياً في ايطاليا ما قبل الحرب، والمعتمد اجتماعياً على كبار العائلات وعلى طبقة الأعيان، ومالت الى تجريب ما يعرضه عليها الفاشيست من طبقة قيادية جديدة بسمات المقاتلين الذين يستمدون الطهارة من حب العنف وتمجيده. هنا الفارق مع الحال الراهنة يتسع. لكن الصلة بين ميلوني وموسوليني لا تقتصر في الوقت نفسه على محض النوستالجيا، بخاصة في بلد لم يحتسب بعد الحرب مهزوماً كألمانيا ليضطر الى محاسبة وعيه وذاكرته، بل عومل على أنه بلد مقاوم حرر نفسه بنفسه من الفاشية، وحفظ ذلك في الوقت نفسه لموسوليني بأن يبقى… بين الحي والميت.