ما إن يرد مصطلح القومية على لسان أحد من العامة حتى يتندروا عليه ويقولوا له إن زمن الشعارات الفارغة انتهى، باعتبار أن المصطلح ما هو إلا شعار فارغ يخلو من أي مضمون حقيقي، والمضمون الحقيقي بالنسبة للعامة هو ترجمة الوحدة العربية على أرض الواقع. وبما أن جميع المحاولات الوحدوية فشلت، فقد أصبح الشعار فارغاً. أما إذا ورد المصطلح ذاته على لسان مثقف أو مفكر سياسي فإنه سيقود إلى جدال فكري اقتصادي ثقافي ينتهي بعبارات الأسف وأحاسيس الهزيمة، لأن المصطلح لم يتحقق لأسباب كثيرة منها أن البعض يرى أن القومية ضد الدين، وهذا البعض هو الذي حارب القومية ولم يحقّق القومية الدينية، كالأمة الإسلامية الواحدة على سبيل المثال. وهكذا نجد أنفسنا هنا وبشكل سريع في مقام مناقشة القومية والدين.

حين يدور الحديث عن عناصر القومية العربية والقواسم المشتركة سنجد اللغة والدين والثقافة والتاريخ والمصير المشترك، أي أن الدين أحد عناصر القومية التي تسعى إلى المحافظة على الدين. وبما أن الوطن العربي يحتوي على أديان متعدّدة، على دينين رئيسيين على أقل تقدير هما الإسلام والمسيحية، فإن المنطق يقول المحافظة على الدينين، وليس صدفة أن نجد زعماء مسيحيين يقودون لواء القومية ويحاربون من أجل تحقيقها، بينما نجد محاربي القومية الشرسين ينتمون إلى الدين الإسلامي.

وقد تحول الصراع من القومية إلى صراع دين خفي. وقد شهد ما سُمي «الربيع العربي» ما أكّد على عدم قبول التعايش والاعتراف بالآخر، حين تم تهجير قرى مسيحية بالكامل، بل تهجير أتباع ديانة خارج الوطن، والعراق دليل صارخ على ذلك، إذ هاجر نحو 60% من مسيحييه إلى أوروبا وأمريكا ودول أخرى، وفي سوريا تم تدمير قرى مسيحية. وسنقول هنا إن الإسلام بريء من هؤلاء الذين أتوا لتشويه صورة الإسلام في عيون العالم. ورغم ذلك، أدت الأحداث إلى طرح فكرة الدولة العلمانية بين المفكرين، لكن ما نشأ من دول طائفية أبعد المفكرين، إلى حين، عن دائرة صناعة القرار.

ما مر به العالم العربي وما يمر به الآن، مرّت به أوروبا، وإفريقيا وآسيا الوسطى، حين تبيّن لهم أن بعث القومية هو السبيل الوحيد لبناء دول قوية، فبرزت اللغة اللاتينية في اليونان، والألمانية في ألمانيا والأجزاء الناطقة بها، بل حتى في إفريقيا في ظل النظام العنصري في جنوب إفريقيا تم بعث القومية لبناء مجتمع يتسم بالعدالة، وقد نجحت كل محاولات البعث في أوروبا، إن كانت في فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا، لكنها فشلت في العالم العربي، لأن البعض ظل أسيراً لدولة الخلافة وللدين والمذهب ما أدى إلى تراجع المصطلح وتحقيقه.

نحن اليوم أمام مشهد شائك جداً في العالم العربي، وقد نستثني دول الخليج العربي منه بنسبة كبيرة، مشهد لم يحقق أدنى عناصر القومية، ولم يحقق أدنى العناصر الدينية، ولم يحقق أيضاً أدنى عناصر العلمانية، بمعنى أن هناك تردّداً كبيراً في الإعلان عن شكل النظام وجوهره، رغم وجود ممارسات قومية ودينية وعلمانية فرضتها قوانين الحرية الشخصية وحرية التعبير، وفي بعض الدول تبدو قومية بالقدر الذي تبدو فيه طائفية، وبقدر أقل تبدو علمانية، ولهذا تسودها الصراعات على مدار الساعة، لأن الحرية تبدو ملتبسة على واضعي السياسات والاستراتيجيات.

الفكر القومي رائع من حيث النظرية، فقير من حيث التطبيق، وكذلك أي فكر آخر، ويبدو أن العالم العربي يعيش مرحلة اللافكر وفكرة اللانظام وحالة الغموض الدستوري والمؤسسي، وهناك جهات انتهازية نفعية حريصة على إبقاء الوضع كما هو عليه، وتبقى الشعوب هي المتضرر الوحيد من اللااستقرار. ومرة أخرى نستثني دول الخليج العربي التي حققت تنمية استثنائية، واستقراراً مميزاً، بتركيزها على عنصري الاقتصاد القومي والثقافة القومية من دون إهمال الثقافة الدينية.