ذهبت إلى مركز التصويت في منطقة السرة محمولاً بأثقال الكويت ليس في إخفاقات التنمية ولا في متعثرات التعليم، وإنما بالهم الأكبر في ملف الأمن، الذي يتفوق على كل الملفات التي قد يريد فتحها النواب الجدد، وكان أملي أن تكون حقائق الكويت الأمنية الموضوع الأكبر والساخن في ندوات المرشحين، الذين أشغلونا بقضايا ثانوية عن الاقتصاد والاستثمار والإسكان والديون، بينما الدولة الكويتية، بكل محتوياتها، بشرا وتاريخا وتراثا وأحلاما ومكانة دبلوماسية، أسيرة حقائق لا مجال لتجاهل أولوياتها.
هناك ثلاث حقائق لا مكان للقفز عليها:

أولاً - أن الكويت في جوانبها الأمنية الدفاعية لا تعيش من دون حلفاء ترتبط معهم بالتزامات دفاعية سريعة التواجد، فاعلة التأثير، رادعة الإمكانات، متأهبة للمشاركة، متمكنة بآليات الردع، ومؤثرة سياسياً، ومن دون ذلك يبقى القلق وضياع الحيلة سيدي المواقف، ولحسن حظ الكويت وأهلها أن يتواجد في قيادة الولايات المتحدة وبريطانيا في عام 1990، أيام الغزو، شخصيات تؤمن بحقوق الشعوب بتقرير مصيرها وتدين اللجوء إلى القوة بدلاً من الحوار واللجوء إلى الدبلوماسية لحل المشاكل بين الدول.

وندرك بخبرتنا ومن أحكام المنطق، بأن استدامة الالتزام مع التحالفات الفاعلة لها متطلبات علينا الوفاء لها والالتزام بما يؤمن استمرارها ليس فقط في تلاقي المصالح، وإنما في التفاعل مع مستلزمات السلوك الإنساني المتحضر، ليس دبلوماسياً فقط، وإنما في المشاركة في مسارات التنمية والاستقرار لمختلف الدول من أعضاء الأسرة العالمية، وكذلك التوافق مع التوجهات العامة لمعاني التحالف، وتبني مفردات دبلوماسية معبرة عن التوافق بدلاً من التصلب في الوقوف في محطات غير منسجمة مع مفاهيم التحالف، ومعنى ذلك الابتعاد عن المخاصمة في المداولات في المنظمات العالمية، وخاصة مجلس الأمن والجمعية العامة، وترك ساحة المجادلات عن القضايا العربية للآخرين الذين أقرب منا جغرافياً وأكبر تجارياً ولهم خبرة حولها.

ثانياً - التمسك باستراتيجية التجمع الخليجي التي يجسدها مجلس التعاون واعتبارها العمق البشري والسياسي والجغرافي لأمن الكويت، كما أوضحت ظروف الغزو عام 1990، وتبني سياسات لتأمين الفاعلية للمسيرة الخليجية، لاسيما في المجالين الدبلوماسي والأمني، وقد عشت شخصياً في الفضاء الدبلوماسي والعسكري الخليجي الموحد، ووقفت على متانته وفاعلية تأثيره لدى العواصم العالمية، لاسيما المؤثرة والقيادية في مجرى المنظمات العالمية.

ثالثاً - تعميق جذور المواطنة وغرس متطلباتها في ضمير كل مواطن وبناء جيش وطني فعال تحل فيه التكنولوجيا مكان النقص البشري مع تحضير روح التضحية لجيش على علم بجغرافية الكويت وما فيها من مداخل تستوجب إدامة الحذر ومراقبة السلوك الإقليمي في تقلباته وطموحاته.

وبوضوح أسجل بأن التهديد الذي يحوم في فضاء المنطقة لم يأخذ حقه في ندوات التأهيل الانتخابي الذي سيطرت عليه قضايا إدارية ومطالبات شعبوبة تفيد دائرة المرشح مع اتهامات لرئيس الوزراء السابق الشيخ صباح الخالد بالهروب من المساءلة، وقضايا تأزيمية أخرى عطلت أحيانا من عمل المجلس.

لاحظنا حجم الهزال الفكري الذي سيطر على محتوى اللقاءات مع وضع اللوم على الحكومة ووزارئها، وفوق ذلك برزت نزعة استطعام المقعد النيابي المستحضر للوجاهة البرلمانية التي لا تتوقف عن ازعاج الوزراء بطلبات يحصد منها النائب تأميناً للاستمرار في ممارسات تخالف أصول العمل النيابي وتعبث بقواعد الإدارة الحديثة وتلغي الانضباط الوظيفي.

أكبر قضايا الكويت ليست في الملفات الاقتصادية، ولا في أثقال السياسة وإنما في أشواك الأمن والبقاء وتحدي المخاطر بالعلم والعمل والإيمان الوطني العميق، والكويت بلد عاش تجربة مؤلمة يظل أبرز حصادها ضرورات الردع وحتمية توفيره، وبأية طريقة كانت، ومهما طغت تكاليفه، مع التفاعل وفق مستلزماته، ومن هذا الواقع سنتابع مجرى المسؤوليات لمجلس الأمة، وأبرزها الردع الآمن واستحضاره، من دون تدخلات من أيديولوجيات أو تجمعات حزبية، أو من اعتراضات لمؤسسات واجبها تعميق الأمن المجتمعي، ومراعاة السلوك الإنساني وصون مبادئ الإسلام العظيمة.

أتمنى أن يعطي رئيس مجلس الأمة القادم ضرورات الردع أهمية أكبر من أي ملف على جدول الأعمال، مبرزاً الأولوية الكويتية وهي الوحدة الوطنية المعتمدة على وعي شعبي جامع مدركة للمخاطر، مستحضراً ملف الردع المؤثر، الذي يشكل الحائط الواقي ليكون أمام النواب للمناقشة، وأن يدشن أيضاً حوارات مع السلطة التنفيذية تناقش متطلبات هذا الردع وكذلك طرح أهم قضايا الدفاع، بالإضافة إلى ملفات التنمية ومتطلبات التطوير.

هذه المسؤولية تشكل أبرز وظائف رئيس المجلس، وكان رئيس المجلس السابق السيد مرزوق الغانم على وعي بها وتناولها بما يؤكد الانسجام بين الحكومة والمجلس، وأعتقد أن رئيس مجلس الأمة القادم على علم بأن دستور الكويت جاء من حرص الشيخ عبدالله السالم على مشاركة المجلس البناءة والإيجابية في أمن الكويت، فالدستور تنبع فاعليته من قناة التعاون بين السلطتين، وإذا ضعف هذا الترابط ساد القلق حياتها، واستفاد الطامعون من هذا التباعد، ولهذا فإن رئاسة المجلس القادمة ليست مجادلات بين طرفين، وإنما ترابط وانسجام، خاصة إذا ما وظف الرئيس صلاحيته في إبعاد المقترحات التي قد تحمل مواجهات وتجر الطرفين إلى مجابهات، وذلك بالتدخل في التأجيل أو إعادة الصياغة أو إخراجها بالتوافق على الصيغة التي ترضي الطرفين.

ليس هناك بد من التذكير بأن شعب الكويت لم يكن سعيداً بمجرى الأحداث في المجلس الماضي، وتابع بضجر تمرد الأعضاء على المقام السياسي والمعنوي لمعاني المجلس، وانتقد العبثيات حول الرئاسة، ولم يذرف دمعة على غياب المسيرة الماضية على أمل استيعاب الجميع خطورة دروب التجربة الماضية، متطلعاً إلى نتاج وحصيلة تنفع الكويت وتزيل قلقها الأمني.

كما أتذكر بعض الصيحات في حماس بعض المرشحين حول تحقيق المصالحة، وكأن المشهد الكويتي يعاني من التصدع والانقسام، فمن المهم الإشارة الى أن فاعلية دستور الكويت تتولد من الانسجام والإجماع الشعبي ومن وحدة المجتمع للحفاظ على سلامة الوطن الذي يتواجد في منطقة طغت عليها التوترات والخصومات والعداوات، فيها حروب وفيها تآمرات لم تنقطع وما زالت فعالة في الجوار الجغرافي.

كما لا يوجد ضرر من تكرار رواية ولادة الدستور ومن قناعة الشيخ عبدالله السالم لنحت صيغة تناسب ظروف الكويت وتجند الإجماع الوطني في انصهار داخلي متماسك يقطع دابر التآمر على سلامة الكويت ويصون سيادتها ويحافظ على استقلالها واستمرار حريتها بلا مضايقات.

الدستور وصفة لوقفة وطن ضد طموحات المغامرين وصدها بالهمة الوطنية الجماعية، وهو دستور وميثاق وطني لا توجد فيه مسافة للمعارضة فكل أطرافه مجندة في يقظة ثابتة.

أكرر قائلاً بأن الدستور وثيقة حشد الغريزة الكويتية الوطنية نحو شهية الإقليم تجاه الكويت، وضرورة التعبئة اليقظة لتطويق الوطن بآليات الردع الفاعلة، فلا مجال لقيام أحزاب في التجربة الكويتية أو أية آلية تصيب الهمة الوطنية، وعندما يتسيد النظام الديموقراطي الحقيقي تراب هذا الإقليم، عندها يمكن فتح النقاش عن دور الأحزاب في غرس المفاهيم الديموقراطية.