يسمونه الزمن الجميل، وأسميه زمن الأحلام الوردية، حيث يبدو الزمن ممتداً أمامنا كأنه بلا نهاية. هكذا كنا نشعر، نرسم الأحلام ونلونها، ونعتقد أن الوقت كفيل بتحقيقها، ليس جهلاً ولا غروراً، وإنما ثقة بالله، وبأننا قادرون على تحقيق هذه الأحلام مهما بدت صعبة التحقق.

عرفته في منتصف السبعينيات، كنت وقتها أبدأ خطوتي الأولى في مجال الإعلام المرئي، بعد أن قطعت شوطاً في مجال الإعلام المقروء، وكان هو قد قطع شوطا في مجال الإعلام المسموع. كنت قد انضممت إلى (تلفزيون الإمارات العربية المتحدة من دبي – القناة 2) الذي حل محل (تلفزيون الكويت من دبي) بعد أن أهدته دولة الكويت عام 1971 إلى الدولة بعد قيام الاتحاد، وكان هو يعمل مذيعاً في إذاعة دبي التي بدأت البث عام 1970 على تردد إذاعة (صوت الساحل من الإمارات المتصالحة) بعد أن تم إغلاق الأخيرة، وقد كان أحد العاملين بها بعد اختياره من بين عدد كبير من المرشحين الذين تقدموا لها في منتصف الستينيات، فكان التحدي هو أن يجمع بين المدرسة، التي كان يقضي فيها نصف نهاره، وبين العمل في الإذاعة، التي كان مقرها في الشارقة، والذي كان يمتد إلى ما قبل منتصف الليل بقليل، حيث كان يستغل الفواصل الإعلانية والغنائية لحل واجباته المدرسية، قبل أن يعود إلى بيته في دبي.

شابان شغوفان، جمعهما عشق جارف للإعلام، وقد كان وافداً جديداً على المنطقة، التقيا في زمن كانت الفرص فيه محدودة، وكانت الإمكانات فيه قليلة، ليس لهما هدف سوى مواصلة هذه المسيرة التي قادهما شغفهما إليها، فمضيا واثقي الخطوة، لا يعرفان إلى أين ستقودهما أقدارهما، لكنهما غير مكترثين طالما أن خطواتهما لن تحيد عن طريق الإعلام الذي سلما به اختياراً، على أي شاطئ من شواطئه ألقت بهما سفينة الحياة، فقد كانت الأحلام تتسع للكثير من الآمال، وكانت كل الطرق تؤدي إلى إحدى ضفتي حلمهما، الإذاعة أو التلفزيون، حتى جاء شهر ديسمبر من عام 1974 لتتوحد مسيرتهما، فيتم افتتاح (تلفزيون دبي الملون) وينتقل هو من الإذاعة إلى التلفزيون، ليصبح أول وجه إماراتي يظهر على شاشته.

حصلت أنا على شهادة الثانوية العامة، فذهبت لإكمال دراستي الجامعية في جمهورية مصر العربية، لأعود منها بعد سنوات أربع فألتحق بالعمل في تلفزيون الإمارات العربية المتحدة من أبوظبي. ولأن الأقدار تأبى إلا أن تجمعنا مرة أخرى، انتقل صديقي بعد عامين للعمل في تلفزيون أبوظبي، حيث كنت أعمل، لتتواصل مسيرتنا، ولكن في مكان واحد هذه المرة، ومن التلفزيون انتقل إلى الإذاعة، حيث كان يجمع الجهازين سور واحد تحت مظلة وزارة الإعلام والثقافة، وحيث تجمعنا معاً الأحلام نفسها التي جمعتنا قبل سنوات ونحن نضع أقدامنا على العتبات الأولى من سلم شغفنا المشترك، ثم تشاء الأقدار أن ينتقل هو للعمل في إدارة الإعلام بالأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي بالرياض، لتذهب بنا دروب الحياة إلى طرق متفرقة.

يوم الخميس الماضي، التاسع والعشرين من شهر سبتمبر، جاءني الخبر المؤلم: «انتقل إلى رحمة الله تعالى الإعلامي الإماراتي سعيد الهش، أول مذيع مواطن على شاشة دبي».

كم هو ثقيل الخبر!

كم هي مؤلمة الذكريات عندما تتداعى في لحظة حزن تتمنى لو ابتعدت عنها!

بدت لي المسيرة قصيرة بحساب الأحلام التي كانت وردية في ذلك الزمن الذي انقضى سريعاً، مهما ظننتها طويلة بحساب عدد السنوات التي انقضت من عمرينا، كأنها ضوء لاح ثم انطفأ سريعاً، كأن كل هذه السنوات لم تحتضن تلك الأحلام التي تحقق بعضها، وحالت بعض الخيبات والانكسارات دون تحقيق بعضها. لم يبق لنا سوى ألق تلك الأيام التي جمعتنا ونحن على أعتاب الشباب، رافقنا الحظ خلالها إلى بعض المحطات، وتخلى عنا في محطات أخرى. إنها طبيعة الحياة التي تعطي وتأخذ بوتيرة لا نعرف كيف نضبط إيقاعها، المخبوء منها يذهب بألق المنكشف، والمجهول منها يذهب بسكينة المعلوم.

رحمك الله يا أبا خالد، فقد كنت نعم الأخ والصديق والرفيق. كان عتبنا عليك أنك قد اخترت الغياب عن المشهد في وقت كان المشهد أحوج ما يكون فيه إليك، وكنت تفحمنا بردودك فلا نملك إلا السكوت.

وداعاً أبا خالد، وعذراً إذا كنا لم نقم بوداعك كما يليق بك، فقد رحلت دون استئذان تاركاً صخب الحياة للذين يحفلون بها بعدك، فلتكن الجنة مثواك، وعليك من الله سلام ورحمة.