من بعد أشهر طويلة من الترقب والجدل في الشارع الماليزي وفي أوساط النخب الحاكمة، ومن بعد محاولات مضنية قام بها المحامون لإحداث اختراق في قضية رئيس وزراء ماليزيا الأسبق نجيب رزاق المتهم بالفساد والسرقة والتلاعب بالمال العام وسوء استغلال السلطة في إطار فضيحة الصندوق السيادي المعروفة بـMDB 1، أصدر قضاة المحكمة العليا في كوالالمبور مؤخرًا بالإجماع حكمًا برفض الاستئناف وتثبيت الأحكام القضائية التي أصدرتها محاكم أصغر درجة ضده بالسجن 12 عامًا. ومعنى هذا أن الرجل سيقضي السنوات القادمة من عمره في سجن كاجانغ إلى الجنوب من العاصمة، وبالتالي سيحرم من مزاولة العمل السياسي، ويضع حدًا لطموحاته بالعودة إلى السلطة. وبهذا طويت صفحة أشهر وأطول محاكمة سياسية في تاريخ ماليزيا المعاصر. لكن هل انتهت القضية عند هذا الحد؟

من نافلة القول إن القضية تركت آثارًا سيئة على الحياة السياسية الماليزية بصفة عامة، وعلى حزب البلاد الأكبر ممثلاً في «المنظمة الوطنية المتحدة لشعب الملايو» المعروفة اختصارًا بـUMNO بصفة خاصة، بل ستكون له تداعيات سلبية خطيرة سيتوارثها قادة هذا الحزب الذي حقق استقلال البلاد وحكمها لعقود طويلة دون انقطاع، لاسيما وأن المحكوم عليه هو ابن أحد الآباء المؤسسين للحزب وللاتحاد الماليزي.

من تداعيات الحكم القضائي المنتظرة، جنوح UMNO نحو المزيد من الخلافات والانقسامات التي أربكت صفوفه منذ خسارته للسلطة لأول مرة في عام 2018، ما يجعله في وضع لا يحسد عليه، خصوصًا في هذا التوقيت الذي تستعد فيه البلاد لانتخابات نيابية عامة مقررة في سبتمبر من العام القادم، أو قبل ذلك إذا اضطر رئيس الوزراء الحالي اسماعيل صبري يعقوب إجراءها مبكرًا.


والمعروف أن الحزب منقسم حاليًا بين تيارين رئيسيين أحدهما يحاول النأي بنفسه عن نجيب رزاق خشية أن يؤثر التضامن معه على حظوظه في الانتخابات المقبلة، معتبرًا الأمر قضية طويت ولا يجب الانشغال بها، بينما يرى التيار الآخر ضرورة الاستمرار في الدفاع عنه من باب تضامن الحزب مع أحد رموزه وقادته السابقين، بل يرى أيضًا أن محاكمته كانت غير عادلة وشابها قصور وتدخلات ومؤامرات، وبالتالي ضرورة استغلال «المظلومية والاضطهاد» كشعار انتخابي ووسيلة لاستجداء التعاطف الشعبي مع مرشحي الحزب. وبطبيعة الحال، هناك تيارات أخرى صغيرة داخل الحزب تحاول اللعب على التناقضات وخوض مساومات رخيصة تعزز بها مواقعها الحزبية.

والملاحظ في مشهد الإنقسام هذا أن زعيم الحزب الحالي «أحمد زاهد حميدي» يصطف مع التيار الثاني. وبحكم مركزه القيادي، الذي يعطيه الحق في تسمية مرشحي الحزب في الانتخابات القادمة، وبالتالي يجعله مستقطبًا لكل الحالمين بالمقعد النيابي والحقيبة الوزارية يمكن القول أنه في مركز قوي. غير أن نقطة ضعفه هو قضايا فساد وغسيل أموال تحوم حوله منذ أن كان وزيرًا للدفاع في آخر حكومة برئاسة رزاق. ومثل هذه القضايا قد تدينه وتذهب به إلى المعتقل كصديقه رزاق. أما رئيس الوزراء الحالي إسماعيل صبري يعقوب، وهو أول زعيم لماليزيا لا يترأس حزبه الحاكم، وإن كان يترأس حاليًا الإئتلاف السياسي الحاكم تحت اسم «تحالف باريسان الوطني»، فقد قرر ـ كما يبدو ـ ألا يقحم نفسه في هذه الانقسامات مع ميل خجول إلى وجهة نظر التيار الأول، مركزًا على تمتين نفوذه وصورته عبر إطلاق خطط اقتصادية جديدة تشفع له بالبقاء بعد الانتخابات المقبلة. وقد نرى تجليات ذلك بوضوح عما قريب حينما يعلن عن ميزانية البلاد لعام 2023 هذا الشهر.

من ناحية أخرى، وكدليل على صحة ما قلناه عن تفاقم الانقسامات داخل أطر UMNO نرى أنه في الوقت الذي يحاول فيه حميدي الضغط من أجل إجراء انتخابات مبكرة كي يفوز فيها ويصبح زعيمًا جديدًا لماليزيا قبل أن تتطور مزاعم الفساد ضده وتقف عقبة في طريق أحلامه، يحاول إسماعيل صبري يعقوب أن يؤخر موعد الانمتخابات قدر الإمكان ويعمل بالتزامن سراً على تأجيج قضية فساد حميدي كوسيلة لتسريع مقاضاته قبل الانتخابات على أمل أن تخلو له الساحة كي يخلفه في قيادة UMNO ويعتلي السلطة تحت راية الحزب.

وبينما تحتد خلافات وانقسامات الساسة الماليزيين على نحو ما أسلفنا، لوحظ أن أنصار نجيب رزاق، وهم مجموعة كبيرة من البسطاء ورجال الأعمال والإقطاعيين المتنفذين، يضغطون من أجل إصدار عفو ملكي عنه يخرجه من المعتقل ويعيد له اعتباره السياسي، كي يعود إلى المشهد ويضع حدًا للمماحكات والمؤامرات والاستقطابات السياسية التي غرقت فيها البلاد منذ عام 2018، وأثرت على اقتصاده. ورغم أن ملك ماليزيا يملك صلاحيات إصدار العفو، إلا أن الأمل ضعيف في استجابته لأسباب منها أن الحكم الصادر ضد نجيب مرّ بتلاث مستويات قضائية كاملة، ناهيك عن أن الرجل يواجه أربع قضايا فساد أخرى معلقة تنظر الحكم، علاوة على ما قد يثيره العفو من تساؤلات حول حيادية عاهل البلاد المفترضة.