استكمالًا لحديثنا السابق حول الأزمنة الحديثة وإعادة بناء منهجية التفكير في محاولة لإعادة التوازن الإيجابي مع العالم الحديث بما يحفظ لنا وجودنا واستقرارنا واستمراريتنا،

فالحضارة الحديثة فرضت علينا وعلى غيرنا اليوم علمها وفكرها وتقنيتها وفلسفتها وطابعها.

وهذا يدفعنا إلى تدشين مرحلة جديدة تمكننا من العبور إلى حضارة العصر من الباب العريض، وذلك عن طريق تكوين تصور معاصر ذي نهج وسطي وأفق فكري في ضوء المعرفة الشرعية والحقائق التاريخية وعلوم العصر.

فالوسطية بالإسلام في عصر الحداثة التي نجح الشيخ صالح الحصين في تجسيد تكامل جوانبها خلال حياته لم تكن مهمة سهلة ولا يسيرة، بل كانت تنطوي على موازنات دقيقة ومعرفة عميقة بشرطي النص والواقع واستيعاب متجدد لعلوم العصر والشرع معاً.

لقد كان الإمساك بتلك الثنائية الخلاقة في إدراك حاجة المجتمع إلى الإسلام الوسطي وتثبيته في وعي المجتمع وهي مهمة تاريخية نجح الشيخ صالح الحصين في تشكيلها، والتي هي خلاصة لتجربة عميقة من الوعي لخطابي النص والواقع والتحصيل المعرفي لعلوم الشرع والعصر.

فبين الدعوة إلى إعادة الثقة بالإسلام في نفوس المسلمين ونزع البريق الذي يحاول هز تلك الثقة عبر الحضارة المعاصرة كانت الوسطية بالإسلام هي خلاصة الرسالة التي تمثلها الشيخ صالح الحصين، فنجح في ذلك واستطاع أن يؤثر بمنهجه الفريد على شريحة واسعة في المجتمعات.

فقد ظل يعمل في صمت وهدوء دون ضجيج، فيما كان يترك أثرًا واضحًا ومقبولًا في النفوس، فسلوكه ومواقفه المعروفة في تصالحه مع ذاته وبعده عن المظاهر والمباهج كان يتمثل في إجادته التامة لأداء دور الشخصية المتكاملة في الحياة، والتي تعكس حالات مختلفة لصفات الأفراد كما تعكس حالاتهم الغالبة من حيث طبيعتهم.

فقد كان ذا شخصية متكاملة في المعرفة حيث جمع بين معرفة الشرع ومعرفة علوم العصر، كما كان ذا تجربة مخضرمة إذ عاش حياته داخل مجتمعه، ثم تعرف على مجتمعات آخرى، هذا بالإضافة إلى تعرفه على المجتمع الغربي والشرقي والحضارة الغربية والشرقية من خلال رحلاته إلى بعض دول العالم الغربي والشرقي.

هذه الخلاصة المكثفة التي استقطبت علاقات واسعة اختبرها من واقع حياته فيها، فجعلت منه أكثر وعياً في خطابه الدعوي والديني والثقافي كما جعلت من تجربته تجربة فريدة كانت لها ثمارها، فقد كان من ناحية عالمًا شرعيًا ومن ناحية ثانية متحدثًا بارعًا ومحاورًا مقنعًا باللغتين الإنجليزية والفرنسية وذا اطلاع بعلوم العصر في الوقت نفسه ثم جعل من الجهد الإيجابي النمط الناظم لكل تلك المؤهلات العميقة والمتعددة فكانت النتائج مذهلة ومفضية إلى ذلك القبول الذي أحاله رمزًا مجتمعيًا لا يكاد يختلف عليه أحد.

لقد فك الشيخ صالح الحصين شفرة التواصل الخلاق من خلال قدرته المؤثرة في جميع شرائح المجتمع، وذلك عن طريق التوازن الذي كان رديفا للتكامل في شخصيته العلمية والاجتماعية.

فالتفاعل العميق بين الإخلاص والتواضع اللذين تنتجهما البساطة من ناحية والمعرفة التي ينتجها العلم من ناحية ثانية جعلت لخطابه قبولًا في المجتمعات، وذلك لكونه مستودعًا لتجارب وخبرات محلية وعالمية.

فالشيخ صالح الحصين من خلال عمله الرسمي ومن خبرته التي اكتسبها من معرفته باللغات الأجنبية وقراءاته واحتكاكه بمختلف الثقافات وكونه عالماً شرعيًا، ونتيجة لهذا التكامل الفريد والتوازن المنهجي في شخصيته، ترك أثراً كبيراً بين الناس بمختلف توجهاتهم.

ثمة صفة أخرى ربما أدت دورًا مضافًا إلى كل تلك المنظومة الفريدة من صفات الشيخ صالح الحصين وهي تلقائيته التي لا تبحث عن حيثية ما لتعكس من خلالها صورة نمطية عنه، بل كانت تلك التلقائية والبشاشة الممر لخطابه العلمي والمعرفي، وهي لا شك من أفضل الحالات التي يتقبلها المجتمع ويصغي إليها. لقد كان في كل لقاء للشيخ صالح الحصين بالناس بكل فئاتهم مناسبة لعكس أحواله السلوكية والقولية المؤثرة ثم كانت القدوة هي المثال الذي يرسخ تأثيره العلمي والسلوكي في نفوسهم.

يمكننا القول إن منهجية الشيخ صالح الحصين وهي تختبر مآلات القبول في نفوس الناس، كانت تتأكد يومًا بعد يوم من خلال تلك الصيغة الفريدة لعلاقات التواضع بالمعرفة وعلاقة القول بالفعل، وعلاقة القدوة بالتأثير.

فذلك هو بالضبط ما جمع نمط حياة الشيخ صالح الحصين فقد كان تأثيره الكبير على ذلك النحو من الفعالية والإيجابية.