من المنطقي أن دوائر اتخاذ القرار في العواصم العربية حرصت على أن تتابع تطورات لندن خلال آخر أسابيع الشهر الماضي؛ إذ حفل بأكثر من تطور يوجب أن يُعطى القدر الكافي من الاهتمام. أسباب ذلك يدركها كل معني بأن ما يجري في إحدى أهم مدن العالم، اقتصادياً، وبالطبع سياسياً، سوف ينعكس، في جوانب عدة، على الدول كافة بأقاصي الأرض وأطرافها، ويمكن الافتراض أن المجتمعات العربية في مقدمها. يضاف إلى هذا أن الذي جرى في بريطانيا بين يوم الجمعة قبل الماضي، وضحى أول من أمس، الاثنين، حمل الكثير من الدروس للراغبين في التعلم بين ساسة هذا الزمان، وكما يعلم الراسخون في علوم تجارب الحياة عموماً، وحقول ألغام السياسة والاقتصاد خصوصاً، ليس من دروس تخلو من العِبر، إنما يبقى المهم هو أن يعيها من يرغب في الاعتبار.

يُسجل للسيدة ليز تراس، رئيسة الوزراء، أنها لم تخجل من الإقرار بالتسرع في إصدار «الميني بَدجيت»، التي تضمنت إجراء استقطاع ضريبي ضخم قبل التأكد من تهيئة الأرضية المناسبة لتخفيضات ضريبية من شأنها حرمان خزينة الدولة من نحو خمسة وأربعين مليار جنيه إسترليني. زاد المشكل تفاقماً أن تخفيض الضرائب أفاد تحديداً الشركات الكبرى، ذات الدخول العالية أساساً، والتي تحقق أرباحاً عالية جداً، ثم إن تعويض المفقود من دخل الخزانة سوف يجبر الدولة على الاستدانة من الاحتياطي لتسديد العجز الناشئ بسبب الاستقطاعات غير المسبوقة من قِبل حكومات حزب «المحافظين». لكن إقرار ليز تراس بالتسرع، وقولها خلال مقابلة لها مع تلفزيون «بي بي سي» صباح الأحد الماضي، إنها «تعلمت الدرس»، لم يحل دون إصرارها المعاند على أن الاستقطاعات الضريبية التي اتخذتها بالتفاهم مع كواسي كوارتنغ، وزير الخزانة، سوف تبقى قائمة، بصرف النظر عما تواجه من اعتراضات.
ذلك نوع من العناد غير المستند إلى أي أساس منطقي. لذا؛ كان من المتوقع أن ترتفع أصوات غضب بين أعضاء مؤتمر حزب «المحافظين» المنعقد في بيرمنغهام، فور انتهاء بث لقاء لورا كينسبيرغ التلفزيوني مع ليزا تراس. الأصوات الغاضبة شملت آراء ساسة مهمين داخل الحزب، بينهم وزراء سابقون في حكومة بوريس جونسون، أبرزهم مايكل غوف، وغرانت شابس، اللذان اعتبرا أن إجراءات تراس، التي تقوم على الاستمرار في الاستدانة من الاحتياطي، بهكذا حجم، بعيدة تماماً عن سياسات «المحافظين». في هذا السياق، من الضروري ملاحظة وجود صراع أجنحة داخل الحزب. فبينما خصت جريدة «ديلي ميل»، المعروفة بعمق تأييدها سياسات الحزب، ميزانية تراس بترحيب حار حين صدرت صفحتها الأولى، في اليوم التالي لإعلان الميزانية، بالعنوان الزاعق أن هذه «أخيراً، أول ميزانية محافظين حقيقية»، فإن القيادات التقليدية للحزب المعنية بمدى نسبة التأييد في صفوف الناخبين، انتبهت فوراً إلى التأثير السلبي لقرارات تراس بين معظم الناس، بمن فيهم موالون في مناطق موالية تقليدياً للحزب. لذا؛ لم يكن ثمة مفرّ من إجبار رئيسة الوزراء على التراجع عن تخفيضاتها الضريبية تلك.
الدليل الأسطع على خطورة ما أقدمت عليه السيدة تراس، تمثل في جانبين؛ أولهما أن حزب «العمال» حقق تقدماً في أكثر من استطلاع رأي موثوق على «المحافظين» فاق ثلاثة وثلاثين في المائة. من المؤكد أن يُقلق تقدم بهذه النسبة، كبار ساسة الحزب. لذا؛ لم يتردد بعضهم من توجيه تحذير صاعق قال إنهم يواجهون احتمال السحق في الانتخابات النيابية عام 2024. بل بينهم من ذهب إلى القول إن الحزب قد يُمحى تماماً من خريطة بريطانيا السياسية. ذلك نوع من المبالغات الدرامية في تصريحات السياسيين. أما ثاني الجانبين، وهو مهم جداً كذلك، فقد تمثل في الصدى العالمي المتشكك في جدوى استقطاعات تراس الضريبية. بين الأهم فيما تردد من أصداء كان رد فعل صندوق النقد الدولي، كما عبّر عنه بيان ورد فيه، أن الإجراءات ستؤدي إلى تصاعد أزمة ارتفاع الأسعار، وتزيد من غياب العدالة في المجتمع. قليلاً ما يتدخل الصندوق إلى جانب عموم المواطنين ضد قرارات تتخذها الحكومات. لذا؛ بدا واضحاً أن على رئيسة الوزراء أن تسمع، وهو ما حصل. الاثنين الماضي سوف يوثق، تاريخياً، أنه يوم تراجع ليز تراس عن التسرع. كما قيل منذ زمن بعيد؛ العودة عن الخطأ فضيلة، وذلك قرار حقيق أن يوصف بأنه شجاع.