أشارت التقديرات الأولية التي تضمنها البيان التمهيدي للميزانية العامة للدولة للعام المالي المقبل 2023 إلى تحقيق إجمالي إيرادات متوقعة بمبلغ 1,123 ريـال، بانخفـاض تبلغ نسـبته 8.1 % عـن ما هو متوقـع تحقيقـه خلال العام المالي الحالي 2022، كما وَحُدد إجمالي الإنفاق للعام القادم بمبلغ 1,114 مليار ريال، بانخفاض تبلغ نسبته 1.6 % عما هو متوقع فعلياً خلال العام الحالي. وتبعاً لذلك قدر فائض الميزانية للعام المالي القادم وفقاً للسيناريو الأساسي بمبلغ 9 مليارات ريال، وبنسبة انخفاض تبلغ 90 % عما هو مقدر تحقيقه بميزانية العام المالي الحالي.

للوهلة الأولى وعند الاطلاع على أرقام الميزانية وقراءتها، يظهر للقارئ جلياً التفاوت والتباين الكبير جداً غير الطبيعي بين النتائج المالية المتوقعة للعام المالي القادم مقارنة بما هو متوقع تحقيقه ومقدر بميزانية العام المالي الحالي، والذي هو برأيي أمر طبيعي جداً، سيما وأن التباين والفجوة بين الأرقام كبيرة للغاية، وبالذات بالنسبة للفائض المالي المتوقع تحقيقه للعام المالي القادم مقارنة بما تم تحقيقه للنصف الأول من العام المالي الحالي والذي بلغ 135.3 مليار ريال أو حتى بما هو متوقع تحقيقه لكامل العام وفقاً لأرقام الميزانية والذي قدر بمبلغ 90 مليار ريال.

إن التحفظ في إعداد أرقام الميزانية العامة للدولة، يُعد أمراً طبيعياً للغاية، وبالذات في ظل ظروف اقتصادية عالمية محيطة تتسم بعدم اليقين وعدم وضوح الرؤية وضبابيتها، سيما عندما يتم ربط توقيت إعداد الميزانية المتزامن مع ما تشهده أسواق النفط العالمية من تقلبات وتذبذبات في الأسعار، وليس ذلك فحسب بل وحتى في الكميات، حيث على سبيل المثال شهدت الأسعار انخفاضاً منذ بداية العام الحالي بأكثر من 37 %، متأرجحة ما بين 136 دولاراً و85 دولاراً للبرميل. أضف إلى ذلك أن العالم لا يزال يعيش تبعات تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد التي حلت بالعالم في آواخر عام 2019 وأشدت ذروتها في شهر مارس من العام 2020، هذا إلى جانب ما يعاني منه العالم بأسره من اضطراب واضح وارتباك وخلل ملموس في سلاسل الامداد سواء أكان ذلك على مستوى الغذاء أم الطاقة، نتيجة للنزاع الدائر حالياً بين روسيا وأوكرانيا.

تلك الأحداث مجتمعة فَرضت على الحكومة السعودية بناء تقديــرات سواء للإيرادات النفطيــة وغيــر النفطيــة أم لإنفاق العام بالميزانيــة تستند إلى معاييــر تتســم بالتحفــظ وذلــك تحســباً إلى أي تطــورات قــد تطــرأ علــى مجريات الاقتصاد العالمــي، وبالذات وأن المملكة لا تزال تَعتمد إلى حد كبير على النفط كمصدر مهم وأساسي، بل ورئيس للدخل القومي، رغم التحسن الملحوظ الذي شهدناه بالنسبة لمساهمة الإيرادات غير النفطية في الناتج المحلي غير النفطي، التي ارتفعت بدورها منذ تطبيق برامج رؤية المملكة 2030 من 9.3 % في عام 2015 إلى 18.4 % في عام 2021.

برأيي ما ينبغي أن يهم المواطن الكريم من الميزانية، هو قدرتها على تنويـع الإيرادات بما لا يثقل كاهله من حيث فرض ضرائب أو رسوم إضافية عليه، ما قد يُؤثر بشكلٍ مباشر أو غير مباشر على دخله الحقيقي، هذا بالإضافة إلى استمرار الميزانية في دعمها لما يعرف بشبكة الحماية الاجتماعية، واستمراراها كذلك في دعم البرامج والمشاريع التنموية المختلفة، بما في ذلك الخدمات المرتبطة بالبنية التحتية والفوقية، بحيث ينعم برغد الحياة وكريم العيش.

وهذا بالفعل ما حرصت عليه الميزانية العامة للدولة بصرف النظر عن التقلبات التي تَحدث بين الحين والآخر في أسعار النفط العالمية، وما يحدث كذلك من أحداث عالمية ذات طبيعة جيوسياسية.

إن الشواهد على ذلك كثيرة وعديدة، منها حرص الدولة على المساهمة في زيادة خلق الوظائف في سوق العمل، حيث أظهرت المؤشرات تراجـعاً ملحوظاً في معـدل البطالـة بين السـعوديين خلال الربــع الثانــي مــن العــام الحالــي حيــث بلــغ 7.9 % مقارنــة بــ 0.11 % فــي نهايــة العــام الماضي، والذي هو خير دليل على دعم الدولة لسوق العمل ولتوطين الوظائف وسعودتها، سيما وأن تلك النسبة تُعد الأقل خلال الأعوام العشـر الماضيـة. كما أن الدولة مستمرة في تنفيذ برامجها الإصلاحية الرامية إلى تحقيق معدلات نمو إيجابية خلال العام 2023 وعلى المدى المتوسط وبما يكفل ليس فقط تعزيز النمو الاقتصادي فحسب، وإنما تحقيق أيضاً الاستدامة المالية للمملكة من خلال رفع كفاءة وفاعلية الإنفاق والضبط المالي.

والدولة كذلك لا تزال مستمرة في جهودها الحثيثة الرامية إلى التخفيف من أعباء المعيشة على المواطن، حيث على سبيل المثال لا الحصر، بالرغم من ارتفاع معدلات التضخم العالمية إلى أكثر من 9 % متجاوزة ببعض دول العالم نسبة 70 %، إلى أن الدولة حافظت على معدل تضخم معقول ومقبول اقتصادياً بحدود 2.6 % للعام 2022، من خلال اتخاذ العديد من التدابير الاستباقية، مثل وضع أسقف على أسعار بعض المشتقات البترولية (البنزين)، كما أنها قامت بتعزيز منظومة الدعم والإعانات الاجتماعية من خلال الدعم الإضافي لمستفيدي الضمان الاجتماعي، وبرنامج حساب المواطن، وبرنامج دعم صغار مربي الماشية، هذا بالإضافة إلى تخصيص دعم لزيادة المخزونات الاستراتيجية للسلع الأساسية والتأكد من توفرها وذلك لمواجهة تداعيات ارتفاع الأسعار العالمية.