وأنا أشرع في كتابة هذا المقال، فاضلت بين وصفين؛ أيهما أنسب لوصف أوروبا الراهنة، أأقول عنها الحائرة أم أقول التائهة، والمفردتان، وإن بدتا في الظاهر متشابهتين أو قريبتين في المعنى، فإنهما ليستا كذلك في الحقيقة. وبدون أن نغرق في تفاصيل اللغة، فإن المعاجم تقرن الحيرة بالتردّد والاضطراب، فيما تصف التيه ب«المفازة لا علامةَ فيها يُهتدى بها»، وفي تقديرنا أن ما به أوروبا اليوم ليس حيرة، وإنما هو إلى التيه أقرب.

قبل أيام تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، مقاطع فيديو سابقة لكوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش، يفهم مما جاء فيها أن واشنطن كان يقلقها دائماً اعتماد أوروبا على مصادر الطاقة الروسية من الغاز والنفط، وقالت بصراحة: «نريد اعتماداً أكبر على منصات الطاقة الأمريكية»، وتزامن تداول هذه المقاطع من حديث رايس مع الجدل الواسع الذي أثاره اكتشاف 4 تسريبات في خطي الغاز الروسي إلى أوروبا، وتضارب التكنهات حول الجهة التي تقف خلف ذلك.

جاءت حرب أوكرانيا فرصة سانحة من ذهب لواشنطن، أو أنها أرادت أن تجعل منها كذلك لنفسها، لتسريع ضغوطها على الأوروبيين في تحقيق ما كانت تريده دائماً: اعتماد أكبر عليها في الطاقة، والكفّ عن الاعتماد على روسيا، وهنا برز التيه الأوروبي، فدول القارة الكبرى خاصة، ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، تجد نفسها فيما يشبه المأزق، لأنها محكومة، من جهة، بتقديم الدعم المطلوب لكييف، التزاماً منها بعقيدة الناتو، وهي عقيدة أمريكية الصنع بالمقام الأول، ومن جهة أخرى السعي إلى تفادي ما يلحق بمصالحها الاقتصادية من ضرر بسبب ذلك.

من علامات ذلك أن وزير الاقتصاد الألماني انتقد «بعض» الدول الموردة للغاز الطبيعي - بما في ذلك بلدان صديقة – حسب وصفه، بسبب أسعارها الباهظة والخيالية، وسرعان ما تخلى الوزير عن حذره وسمى واشنطن بالاسم قائلاً: «لقد لجأت الولايات المتحدة إلينا عندما ارتفعت أسعار النفط، وتمّ نتيجة لذلك استغلال احتياطيات النفط الوطنية في أوروبا. اعتقد أن هذا التضامن سيكون جيداً أيضاً لكبح أسعار الغاز»، وليس النبيه وحده مَنْ بالإشارة يفهم، حين يقرأ هذا التصريح، أن ما دعاه الوزير ب«بعض الدول»، إنما هي الحليف الأكبر، والأناني، خلف المحيط.