الفرصة قد لا تتكرر. وقد علّمتنا الحياة وجوب اغتنام واِنْتِهَاز الفرصة. إن فن اغتنام الفرص لا يجيده إلا الأذكياء وهو أحد أهم فنون الحياة. ويقول الشاعر: «إذا هبّتْ رِيَاحك فاغتنمْها.. فإن الخافقاتِ لها سكونُ». وقد قيل من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه.

الفرصة الكبيرة التي يجب العمل عليها هي دعوة الصناعات الألمانية المتعثرة لنقل صناعاتها إلى السعودية حيث الطاقة الرخيصة واليد العاملة الرخيصة نِسْبِيّاً عن أوروبا والجو المعتدل طوال السنة تقريباً وخاصة في الشمال والساحل الغربي ونيوم. فضلاً عن قربها من البحر الأحمر وسهولة الشحن والنقل.

إن الوضع في ألمانيا صعب للغاية يقول روبرت هابيك وزير الاقتصاد الألماني: «إن بلاده قد تلجأ إلى إغلاق بعض القطاعات الصناعية خاصة قبيل فصل الشتاء في حالة استمرار نقص إمدادات الغاز»، وذلك في أعقاب تراجع إمدادات الغاز الروسي لألمانيا... كما شدد الوزير على أن الغاز الذي تقوم عليه ماكينة الصناعة الألمانية بات سلعة نادرة، ويؤكد الخبير الاقتصادي مصطفى عبدالسلام أن «الفترة المقبلة صعبة للغاية للاقتصاد الألماني، وتفوق ما يحدث مع الاقتصادات الكبرى خاصة إذا استمرت الحرب».

وما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية وقامت به نموذج نستوحي منه العبر والدروس؛ فلقد استغلت الولايات المتحدة الأمريكية وعززت من مكانتها الاقتصادية والاستراتيجية على الساحة الدولية خلال السنوات التالية وخصوصاً أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، في فرض الواقع الجديد. حيث إن ألمانيا إحدى كبريات الدول المصدرة للعقول، وقد بلغ عدد الباحثين الألمان المتواجدين في الولايات المتحدة في عام 2002 ما يزيد على خمسة آلاف باحث. ويساهم الشعب الألماني، في سد عجز أمريكا في مجال البحث العلمي. مما يعني خسارة فادحة يتكبدها تطور العلوم ليس في ألمانيا فحسب ولكن القارة الأوروبية ككل. وتعد الولايات المتحدة أكثر دول العالم جاذبية في مجال البحث العلمي، فهي تستقطب الأكاديميين ليس من ألمانيا فقط، ولكن من جميع دول العالم.

الولايات المتحدة الأمريكية استغلت الفرصة لتعزيز الهيمنة الاقتصادية الأمريكية من خلال اتفاق «بريتون وودز» الموقع في عام 1944، الذي أسّس للوضع الاستثنائي الذي يتمتع به الدولار الأمريكي حالياً في النظام النقدي العالمي، والذي نتج عنه أيضاً تأسيس أهم مؤسستين ماليتين في العالم، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

الفرصة التي تلوح لنا في الأفق يجب اغتنامها لتسهيل هجرة العقول والصناعة؛ خاصة أن لدينا مدناً ناشئة اقتصادية مثل مدينة الملك عبدالله الاقتصادية جاهزة بكل أو أغلب ما تحتاجه هذه الصناعات الألمانية والعقول للانتقال والعيش فيها بعيداً عن المدن الكبيرة غير الجاذبة لهذه العقول. كما أن هذه المدن قريبة من جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) مما يعطيها ميزة نسبية للعقول وللصناعات التي تحتاج لمراكز أبحاث. علماً أنه يجب توفير الإمكانات اللازمة لتسهيل وجذب الصناعات والمراكز العلمية، حيث يتطلب الأمر توفير السكن والإقامة والبيئة المناسبة والاحتياجات المماثلة في البلد الأم. مما سيساهم في جعل السعودية أحد أهم مراكز العالم في التصنيع. كما أنه من الضروري اعتماد منظومة قانونية متكاملة تتماشى مع المستجدات في عالمنا اليوم ومتوافقة مع ما هو متعارف عليه في العالم الحديث. إن الاستثمار والازدهار يتطلب بنية قانونية متطورة وأجهزة تنفيذية موضوعية شفافة تهدف إلى تحقيق الجودة والتميز في الأداء من خلال اختيار الأساليب الصحيحة والفعّالة من أجل إدارة المنظمات وتحقيق أهدافها.

إن وزارة الاستثمار ووزارة الصناعة وصندوق الاستثمار وجامعة كاوست وكافة الجهات ذات العلاقة مدعوة للنظر في هذه الفرصة وغيرها من الفرص التي يتطلب الوضع اغتنامها وذلك بالتنسيق مع الجهات الأخرى ذات العلاقة لوضع تصور عام وسريع لإيجاد بيئة مشجعة ومناسبة لتحفيز وجذب العقول والصناعات للسعودية. وفي نظري أن مثل هذه المهمة تحتاج إلى هيئة دائمة تحت مظلة وزارة الاستثمار تجتمع فيها جميع الوزارات ذات العلاقة وعلى مستوى وزير أو نائب وزير حتى تتمكن من تيسير وتسهيل الإجراءات وتبني الأنظمة الحديثة.