عام 1979 قاد الخميني ثورة شعبية ضد حكم الشاه الفاسد، لعلها آخر الثورات الشعبية الناجحة، كانت ثورة شوارع وفقراء وحوزات وحسينيات ومثقفين وشعوب مظلومة، شكل رجال الدين بمختلف اتجاهاتهم التيارات الرئيسية في قيادتها، كان هناك الشيوعيون واليسار الراديكالي والحركات القومية، شعوب الإمبراطورية الفارسية توحدت للخلاص من الحكم الذي تعفن في فساده، فرساً وأذربيجانيين وكرداً وعرباً وبلوشاً وأرمنَ ... إلى آخر الشعوب التي حبسها الشاه في إمبراطوريته، خلال أيام تهاوى أحد أكثر الديكتاتوريات صلافة وظهر الإمبراطور عارياً وهو يبحث عن ملاذ. كانت ثورة ملهمة غيرت المنطقة وأحيطت في أسابيعها الأولى باحتفاء شعوب الإقليم، وتركت أثراً في كل شيء: الثقافة والاقتصاد والإيمان بقوة الناس.

سينقض الملالي مباشرة على إخوتهم وشركائهم من اليسار المدني والراديكالي وشرائح المثقفين، قبل أن تجف دماء المتظاهرين/ات، وستسمح الحرب الغريبة المتوحشة التي شنها الديكتاتور الجار في العراق في توفير الغطاء لموجات التصفية المتلاحقة للشركاء، تحت غطاء الحرب والدفاع عن الوطن وحماية الثورة، وستنشغل البيوت بقتلى الحرب والأولاد الذين لا يعودون والبحث عن الخبز، ولكن آلة التصفية لا تتوقف وستواصل حربها في الداخل، عندما توقفت الحرب كانت المهمة قد انتهت وكان الملالي قد تمكنوا من القضاء على الشركاء بأنواعهم، وجرى استبدال قطع غيار كاملة بماكينات القمع القديمة، وأعيدت الشعوب الحالمة إلى السجن، كانت إيران منهكة ولكنها خالية من اليسار واليمين والحريات المدنية، حيث ستبدأ عملية هادئة وطويلة في تقليم الرموز الإصلاحية والأفكار التي تحملها بعض التيارات الدينية، لقد بدأ تنظيف الغرفة وسيبدأ الحصار وسيتحول إلى غطاء لشبكة قمع تحت شعارات من نوع "المؤامرة" على الجمهورية الإسلامية.

في الداخل لم تتوقف موجات الاحتجاج، كانت الأصوات تصل من خلف أسوار الإمبراطورية المغلقة بأختام الفتاوى، كل شيء يمكن أن يكون سبباً للاحتجاج هناك، الغلاء والفساد والاضطهاد، شح الماء وجفاف الأنهر والكوارث الطبيعية، هكذا وصل شعار الإيرانيين المؤثر العميق "فكّروا بنا".

ما يحدث الآن هو موجة مختلفة، ولكنها استكمال للموجات السابقة، احتجاجات لا تقودها طبقة ولا تحمل شعاراً قومياً ولا تطالب بخفض الضرائب أو تحسين ظروف معيشية لشريحة بعينها، هي كل هذا.

احتجاجات شجاعة تستهدف نواة فكرة القمع نفسها، مواجهة حول جدائل النساء وفرض الحجاب، أحد أكثر مظاهر السلطة استقراراً ورسوخاً، ولكنها ليست وليدة قتل الشابة الكردية مهسا أميني، تعرف بـ"زينا أو جينا"، على أيدي "شرطة الأخلاق"، مواجهة مع فكرة وجود شرطة للأخلاق تقرر سلوك الناس، وتأليف قانون خارج القانون، التطاول الفج على فكرة الحق البسيط والحرية، وهو تطاول سيبدو متوحشاً عندما تنحصر مهمته في مراقبة "الحجاب" وملاحقة النساء على وجه الخصوص، وقياس مدى التزامهن بمعايير قانون الملالي والآيات وقصار السور لمساحة "الحجاب" وانكشاف الشعر، وهي في الوقت نفسه إشارة إلى عمق الأزمة والهوة بين ثقافة السلطة وفكرتها عن الحكم وشرائح عريضة من المجتمع الإيراني وقوة النساء في هذا المجتمع.

قتل مهسا أميني التي وصلت مع عائلتها إلى العاصمة وأوقفت أمام طريق حقاني السريع المؤدي إلى وسط طهران، على أيدي كمين لـ"شرطة الأخلاق"، بدأ قبل ذلك، من هناك من فكرة "حراسة الحجاب".

الكمين على مدخل طريق حقاني السريع كان ينتظر الفتاة الكردية قبل ولادتها، ولدت بعد ثورة الخميني وبعد فرض الحجاب على النساء وتحديد معاييره، وبعد تأسيس جهاز أمني تحت اسم "شرطة الأخلاق" لحراسة هذه المعايير والتأكد من التزام النساء تعليمات الملالي، هناك بالضبط تم التصديق على قتل فتاة كردية في الثانية والعشرين اسمها "زينا" ستصل من بلدتها "سقز" في محافظة كردستان في غرب إيران إلى العاصمة، في رحلة عائلية يوم 13 أيلول (سبتمبر) عام 2022.

موجة الاحتجاجات التي كانت تتهيأ في شوارع إيران وبيوتها وقراها، كانت بحاجة للحادثة، الأمر يتجاوز مقتل فتاة كردية شابة على يد جهاز أمني يصعب تخيل مهمته، أو تخيل طريقة إعداد أفراده وتأهيلهم/ن، وهو جهاز مكروه يضع أنف السلطة في جدائل النساء ومناديلهن ويتشمم مثل ضبع روائح الصابون والعطر والصبغات الأثيرة التي تفوح من الأسرار الصغيرة للشابات.

احتجاجات عابرة للقوميات ومرتبطة مباشرة بالحقوق والحريات البسيطة للناس، في مواجهة سلفية دينية تعيد إنتاج نفسها بعد كل انتفاضة شعبية.
سيتسلل من دون شك آخرون من الثغرة؛ قوميون غلاة وشبكات جواسيس والموساد الإسرائيلي بهيئاته المتعددة، ميليشيات انفصالية مسلحة وأعداء كثر جمعتهم الجمهورية في محاولاتها تحصين النظام عبر تفكيك المحيط الإقليمي، كل هذا يصلح ليشكل مكوّنات مؤامرة، ولكن الثغرة التي تسلل منها كانت هناك دائماً في دورية الأخلاق على طريق حقاني السريع.

استنفدت الشعارات وفشلت سياسة شارع لشارع، وليس أمام السلطة، حتى لو هدأت الساحات، إلا أن تتراجع أمام مطالب الشارع أو تجر البلاد إلى حرب أهلية تمزقها وتفكك الدولة. الفرق بين موجة وموجة يضيق، والموجة القادمة ستأتي سريعاً وستكون أشمل وأكثر عنفاً.

لا أحد يعرف إلى أين ستؤدي هذه الاحتجاجات الواسعة الملهمة التي يقودها الطلبة والنساء، ولكن بالتأكيد لن تعود إيران إلى ما كانت عليه قبلها.